مازلنا إلى يومنا نتناقش في الساحات السياسية والمدنية بتونس حول إشكاليات عديدة تهم معوقات إرساء الديمقراطية الحقيقيّة. ولعل من أبرز هذه المعوّقات تنامي العنف بكل مظاهره وفي كل المجالات المعيشيّة بصفة عامة. وذلك ليس بغريب طبعا بعد التغيّرات العديدة التي شهدها نمط العمل السياسي في الدولة التونسية.
لقد اتّفق الجميع تقريبا على تحديد العنف عدوا أساسيا لكل حياة ديمقراطيّة ممكنة، وذلك بديهي باعتبار أن الديمقراطية في كنهها تقوم على القانون بكل آلياته إقرارا وتطبيقا، وتتجنّب القهر والغلبة في العلاقات البشرية كما تقوم أيضا على التسامح والاعتراف للغير بحقه في الاختلاف والتعبير عنه وتجنّب الصرامة والدغمائيّة. وما يجب تأكيده هنا يتمثّل في دور التحاور المستمر حسب قواعد عامّة تعتمد العقل والأخلاقيات. وكنّا في أعمالنا السابقة اقترحنا مفهوما جديدا استقيناه من أعمال الفارابي يربط العقل بالوجدان وبالأخلاق لإحداث توازنا ضروريّا في المجتمع يجعل من العيش المشترك في كنف الكرامة ممكنا ونعني التعقّليّة.
هناك طبعا حلول عديدة يمكننا التعمّق فيها للقضاء على مظاهر العنف التي مازلت تنخر البلاد ولعلها ستظل كذلك مادامت الحكومات المختلفة التي حكمت البلاد منذ الثورة إلى يومنا هذا لم تفقه خطورة الوضع وحاولت متابعته ببعض الإصلاحات غير الجوهرية مؤكدة على التوجّه الأمني الذي سيقضى – في نظرها – على بُئر العنف. معنى ذلك أن العقليّة الاستبدادية التي تحكّمت في مصير البلاد منذ الاستقلال مازالت سائدة بل مازالت تقود برامج الحكومات المختلفة. والحقيقة أنّ كلّ الأزمات التي مرّت بها تونس منذ ثورة جانفي 2011 تبيّن أنّ العقل الإستبدادي مازال مهيمنا في سياسات الأحزاب كلّها بل وفي هياكل الدولة من حكومة ورئاسة وبرلمان. لذلك كان النظام الديمقراطي بقوانينه ومنشآته سببا في التوتّر عوض أن يكون حلا جذريّا للعنف. وما ينقص هذه التجربة التونسيّة يتمثّل في غياب ثقافة الديمقراطيّة التي يمكنها القضاء على عقليّة الإستبداد. فنحن في تونس أعطينا للحقوقيين مصيرنا السياسي والثقافي وتغافلنا على إمكانيّة أن يتحوّل القانون من خلال استعماله السيئ إلى غطرسة واستبداد باسم الدستور أو باسم الأغلبيّة أو باسم الزعامة. والأزمة الأخيرة التي عاشتها تونس في أوائل سنة 2021 بين رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان ما هي في واقع أمرها إلا تمظهرا واضحا لعقليّة الإستبداد التي مازالت تسيطر على طريقة عمل هؤلاء الرؤساء فالأول يحتمي بتأويل خاص للدستور والثاني بالاستحقاق القانوني والثالث بالشرعيّة حسب تصوّره. وكلّهم يستبدّون بالرأي ويريدون تمرير قراءتهم وقراراتهم بالاستبداد. لا لأنّهم جميعهم قد تكوّنوا ثقافيا في مناخ استبدادي فقط بل وأيضا لأنّ الثورة التونسيّة التي كانت في أصلها ثقّافيّة قد استحوذ عليها الحقوقيّون ووجّهوها نحو المعارك السياسيّة والحقوقيّة وأهملوا عمقها الثقافي فأصبحت لنا ديمقراطيّة هشّة بعقليّة استبداديّة وبثقافة محيّدة وغير فاعلة.
ولسنا نضيف شيئا جديدا إذا أكّدنا أنّ من بين الحلول الممكنة لمشكل العنف المجتمعي يتمثّل في التوجّه الثقافي العقلاني والإبداعي الحرّ. فكان لابد من الوعي بهذه الضرورة القصوى وتنظيم السياسة الثقّافية حسب قاعدتين أساسيتين: القاعدة الأولى هي بناء ثقافة متعقّلة ذات موارد فكرية متعدّدة لا محالة ولكنها كلّها تتخذ من العقل والأخلاق منارتين تتحدّد منهجية التثقيف على ضوئهما. أما القاعدة الثانية فهي محاولة بناء ثقافة نقدية حرة تهذّب الذوق لا محالة ولكنّها توجّه الشباب وكل أفراد المجتمع نحو التعويل على النفس وتفجير القدرات والإبداعات مع تكريس العيش المشترك المبني على الاحترام والكرامة. نعم عقل وحرية مبدآن أساسيان لمستقبل الثقافة في تونس مهما كانت توجّهات السياسيين بذلك يمكنها محاربة عقليّة الاستبداد كما يمكنها أن تبني مجتمعا مسالما بعيدا عن العنف.