كونٌ من دونِ شك
توفيق قريرة
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
أقرأ هنا وهناك في مواقع التواصل الاجتماعي أقوالا منحولة تنسب وهما إلى شاعر كبير، أو إلى فيلسوف عظيم. أحدس لأول وهلة أن القولة ليست لصاحبها وإنما هي ابتداع، ووضع لقول لا صلة له بمن نسب إليه؛ يريد المبتدع أن يكون بما أبدع ذا صيت بعد أن ينسب قولا متهافتا إلى سلطة أدبية، أو فكرية مرموقة.
أن تقول الكلام المتهافت شيء، وأن أن تنسبه إلى قيمة أدبية أو فكرية مرموقة فذلك شيء ثان، وأن تكتشف أنت القارئ المتمعن أن في الأمر تزييفا في نسبة كلام إلى قائله فأمر ثالث هو ما يعنيني في هذا المقال أكثر من غيره.
حين يسمي الناس قولا بالمتهافت إنما هم يعيّرونه بمعايير عقلية وإبداعية، ولكن أيضا بمعايير نصية تنبع من مراقبة انسجام الخطاب، وعدم خرقه لقوانين الترابط بين ما يسبق وما يلحق من القول، إذ في الكلام استرسال ملحوظ دائما؛ فحتى في الأقوال المتقطعة هناك ما يوحي بالثلم، وينبئ بالرجوع.
التهافت في الخطاب لا يعني أن الكلام غير مترابط بالأدوات المناسبة، بل يعني أن في القول ضربا من تقطع الأوصال بين ما يقال وما ينبغي أن يُفهم، أو بين ما يقال وعمق ما ينبغي أن يفهم، أو بين ما يقال وعلاقته بما نحن مدعوون إلى فهمه. تهافت الأقوال ليست دائما مسألة إنتاج للكلام، بل مسألة تلق له بمعيار العمق والصواب والحكمة، أو غيرها من معايير التلقي العقلية.
أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي لكثيرين أن يكتبوا ويعجبوا بما يكتبون، فوراء كل خلق فتنة، أن تجرب الكتابة فذلك عذر جميل، ولكن أن تدعي لأول وهلة أنك نسيج وحدك في الكتابة، وطفرة عصرك في الكلام، فعيب يترفع مقامنا ههنا عن ذكر سلبياته. هناك جنس من مجربي الكتابة، يعمدون إلى نسبة كلامهم إلى العظماء، كي يرفعوا من مقداره فيحصدون استحسانا هو في الحقيقة لغيرهم. كثير من جمهور التواصل الاجتماعي لا يتفاعلون مع القول ونوعه بالضرورة، فهم ليسوا جمهور فكر أو جمهور ثقافة أو جمهور إبداع، هم جمهور افتراضي يصطادون أشياء كثيرة آخرها نوعية الكلام الراقي. يكفي أن يقول صاحب منشور مشهور صباح الخير حتى يطرب له الناس الطرب العظيم، كأنما غنى بالتسبيح وغرّد بالتسمية.
الشك في ما يكتب هو دأب من له ثقافة تربّت خارج هذا العالم التفاعلي، على التذوق والتنبه لقيمة النصوص وهذه القدرة يمكن أن تكون قد نمت من القراءة، أو من التجارب الثقافية التي للشاك في النص، أو حتى لتجربته لا مع النصوص، بل مع كثرة التكاذب في الحياة اليومية. قد يكون الشك في نسبة منشور إلى صاحبه المزيف خطوة مبنية على أساس معرفة بأسلوب من نسبت إليه القولة زورا؛ وهذا في ذاته لن يكون إلا بعد قراءة تتمثل بدقة نصوص من نُسبت إليه زورا أقوال متهافتة.
السؤال الذي يشغلني وأنا أشك في نسبة القول إلى قائله هو: هل أنه من الشرعي لسانيا أن تقوم بهذا العمل، أي هل يمكن للساني أن يكون محقق نصوص قد ينتهي به التحقيق في النهاية إلى إثبات نص إلى صاحبه أو عدم إثباته. وظيفة التحقيق في صدقية النصوص، بما هي وثائق، وفي إسنادها إلى أصحابها، كان من بين الوظائف التي كان فقه اللغة أو الفيلولوجيا يشغلها في عصر ما قبل اللسانيات الحديثة. هذه الرؤية انتقدتها اللسانيات، لأن اللغة لم تكن في تلكم النصوص غاية ولا مقصدا في ذاتها، بل كانت وسيلة لشيء آخر غير اللغة. وبعض من معاني الدراسة العلمية للغة، أن يكون مدار الدراسة حول اللسان في ذاته ولذاته. أنا أعتقد أن السبب الأعمق الذي يمنعني من أن أنسب نصا إلى شخص، أو أنسبه إليه هو نفسه، الذي يجعلني أنسب ذلك النص نفسه إلى ذلك الشخص، بعبارة أخرى أن أسباب رفضي أن يكون نصا لشخص كتب نصا آخر مختلفا في «روحه عنه» يمكن أن تكون هي نفسها الأسباب التي تجعلني أرد كلامين مختلفين لا في الموضوع، بل أيضا في الأسلوب إلى شخص واحد.
لقد سادت إلى اليوم فكرة خاطئة ترد إلى الفيلسوف والكاتب الفرنسي الشهير جورج لوي لو كلارك دي بيفون (1707-1788) التي يقول فيها «إن الأسلوب هو الرجل نفسه»، وهذه قولة أحيتها بعض الدراسات الحديثة التي تعتقد أن لكل أديب أسلوبا يُعرف به، وأنه من الممكن أن نعتمد على هذا الأسلوب الذي يترسخ منواله بعد طول قراءة لما كتبه الأديب، كي ندقق في صحة نسبة النصوص إلى أصحابها.
أنا لا أعتقد أن هناك أسلوبا واحدا أو سمات أسلوبية خطاطية واحدة، يمكن أن يُعرف بها شخص ولا يُعرف بها آخر. الأسلوب لسانيا يتنزل في الإنجاز الفردي، وهو الكلام الذي هو في النهاية استعمال لإمكانات اللسان، بما هو مؤسسة اجتماعية تشترك فيها الجماعة اللغوية، ولا يمكن لأي إنسان أن يؤسس بالكلام نمطا لنفسه أقصى ما يمكن أن يعرف الشخص بطريقة متواترة في استخدام شكل لغوي معين وليس هذا لسانيا لا خلة ولا نقيصة، ولا هو علامة يمكن أن يستدل بها على شخص.
يزداد الأمر وضوحا حين نفكر بطريقة عرفانية، في حالة بناء الوضعيات المتماثلة مرجعيا بأشكال مختلفة، ويمكن لأي فرد أن يغير من طرق بنائه لوضعية واحدة. أنت حين تعيد حكاية على عشرات، أو مئات، لن تعيدها بالأسلوب نفسه للأشخاص المختلفين ستكون إزاء تغيير بناء تلك الوضعية من زوايا نظر مختلفة، تراعي فيها مخاطبك، ولكن تراعي فيها أيضا وعلى سبيل المثال طريقة طرح السؤال عليك لإعادة سرد الحكاية.
نسبة نص من نوع (رمت الفؤاد مليحة عذراء) إلى عنترة بن شداد، ونسبة المعلقة إليه يمكن أن يثير الشكوك المبنية على سؤال :هل يعقل أن يقول عنترة أو غيره نصا بلغة جزلة ويقول آخر بلغة مهلهلة سهلة؟ بالطبع لن نتناول لسانيا المسألة بمنهج الشك الديكارتي، بمنهج عرفاني يزعم أن المسألة لا تتعلق بالأسلوب، بل بتمثل الكون وبطرق بنائه. يقول عنترة في بيت من أبيات معلقته (دارٌ لآنسةٍ غضيضٍ طرفها… طوعِ العناقِ لذيذة المتبسمِ). فيصف دار المرأة ولكنه يصفها هي من خلالها، اعتمادا على التناسب بين الحال والمحل. إنه يبني خواء المحل على أنس الشخص الذي كان يحل به. المعجم في وقت عنترة يقيد بناء الوضعية فليس للآنسة المعنى الذي لها الآن، كان معناها غير اجتماعي لا يعين حالة المرأة الاجتماعية، بل كان معناها نفسيا، إذ تعين الكلمة الشخص من جهة ما يشيعه على المكان من أنس. غض الطرف ههنا ينبغي أن يفهم بإسناده إلى جنس يكون الغض فيه خلة لا نقيصة، كما هو الأمر عند الرجال. العين ههنا حيية أنى منها عين التي رمت الفؤاد بسهام لحظ ما لهن دواء.. المرأة ههنا قريبة يمكن عناقها ولثمها هناك كان المكان ضيقا والأنفس طلقة وليس كالمليحة العذراء التي ترمي عن بعد فتقتل .. العشق الصيد ليس كالعشق الملابس للعاشق.
لا أحد يعلم لمَ رأى الشاعر امرأته في المعلقة بالشكل الذي رآه به، ولمَ رأى امرأته العذراء التي رمته بقاتلة مبصرة بالشكل الذي رآها به. وليس من حق أحد أن يلزم شخصا يصف امرأة بطريقة وبمعجم أن يصفها بالطريقة نفسها وبالمعجم نفسه. إننا يمكن أن نشك في الأكوان من جهة صدقيتها المرجعية، لكن لا يمكن أن نشك فيها من جهة صدقية بناء الذهن لها. كل الأكوان من ناحية بناء اللغة لها، منزهة عن الشك.