نحن نطالب في المنابر العلمية وحتى في المنابر الإعلامية، بالموضوعية في الخطاب. نحن نقصد بالموضوعية أن نمثل باللغة الواصفة الأفكار والأشياء، بشكل لا معيارية فيه ولا ذاتية. ففي الجملة التالية ( يتألف الماء من ذَرتيْ هيدروجين وذرةِ أوكسجين) مثلنا تركيبيةَ الماء تمثيلا دقيقا، بأنْ تحدثنا عن مكوناتها واستعملنا في ذلك التمثيل عبارات محايدة، حيادُها نابع إما من كونها اصطلاحية تعين المتصورات تعيينا موضوعيا؛ وإما من أنها لا تعكس انفعالَ الواصف بما يصف.
من السهل أن تجعل الجملة العلمية الموضوعية السابقة منحازة ببعض الزيادات، التي تدل مثلا على انفعالك كأنْ تقولَ (أن يتألفَ الماءُ من ذرتيْ هيدروجين وذرة أوكسجين فذلك ما لا يروق لي). أنت جعلت بقولك هذا التركيبة المذكورة موضوع انفعال. وانفعالك وإن كان لا يعني العلماء، فإنه يعكس موقفا من الوجود، وتفاعلا مع الحقائق. قد تبدو اللغة العلمية غير آبهة بلغة الانحياز هذه، لأنها وهي تعرض تركيبة الماء لا تعرضها في ضوء انعكاسها على الأنفس الراغبة فيها، أو الراغبة عنها ؛ إنها تعرض الأشياء كما هي في ضوء ما توصل إليه العلم بالنظر والتجريب والتجريد الآن وهنا.
لكن العلم وهو يصل إلى حقائقه، وهو يبحث عن لغة غير منحازة تعرضها، لا شك في أنه مرّ بمراحل اشتغلت فيها اللغة بشكل منحاز أو ذاتي. فلنفترض على سبيل المثال، أن العلماء قبل أن يكتشفوا أن الماء يتألف من ذرتي الهيدروجين وذرة الأوكسجين، كانوا يعتقدون اعتقادا آخر، لنقل مثلا إنهم كانوا يظنونه متألفا من ثلاثة غازات لا من غازين فقط، أو متألفا من عدد من الذرات غير التي يقول العلم إنه يتألف منها حاليا. سنفترض أن هناك عالما ما «لم يعجبه» أن يتألف الماء في ذلك الاعتقاد من الهيدروجين والهيليوم و الأوكسجين؛ سيستعمل الجملة غير المحايدة والمنحازة للتعبير عن انفعاله، وعن معارضته للحقيقة السائدة آنذاك؛ وإذن ستكون الجملة من نوع (أن يتألف الماء من الهيدروجين والأوكسجين والهيليوم فذلك أمر لا يروق لي). هي جملة انفعالية فيها نقد للحقيقة السائدة في ذلك العالم الخيالي، هي منحازة لكنها تعبر عن لحظة علمية فارقة، هي اللحظة التي ستقود إلى اللحظة العلمية الجديدة، وإلى الحقيقة العلمية السائدة حاليا من أن الماء يتألف من الهيدروجين والأوكسجين.
لقد كانت جملة الرياضي والفيزيائي الشهير غاليليو (1564-1642) «ورغم ذلك هي تدور» التي قالها لأرباب الكنيسة، وقد رموه بالكفر عندما قال إن الأرض تدور حول الشمس، من هذا الضرب من الجمل المنحازة التي تعبر عن موقف من وضعية علمية راهنة تؤيدها الكنيسة؛ ويمثل القول بنقيضها لا خروجا عن العلم فقط بل مروقا عن الدين. جمل الانحياز إلى الذات وعدم الانحياز إلى الموضوع (الموضوع في هذا المثال يلتبس فيه العلمي بالعقدي) هي حالة فريدة لا بد منها في التعبير عن المعارضة لراهن علمي لم يعد مقبولا. حين اكتشف غاليليو أن الأرض تدور حولَ الشمس، لا شك أنه أنتج وبصوت صريح جملة من نوع (أن يَسُودَ الاعتقاد بأن الأرض لا تدور حول الشمس فذلك لا يعجبني)؛ ولا شك في أن ممثلي الكنيسة ردوا عليه بجملة من نوع (أن يعتقد غاليليو أن الأرض تدور حول الشمس مُروقٌ). كانت جملته منحازة إلى اعتقاد جديد غير منحازة إلى السائد، وكانت جملة الكَنَسِيين منحازة إلى أخذ الناس بجَريرة ما اعتقدوه وهو مخالف للراهن المعتقدي، ولذلك كانت تدعو إلى تنزيل العقاب عليه؛ لكن جملته الأخيرة (ورغم ذلك هي تدور) هي جملة من عبر عن حقيقة موضوعية لا يتدخل فيها عقاب ذاتي، لأن التنكيل بمن يقول الحقيقة الواصفة للخارج الموضوعي، أو عدم التنكيل به لا يبطل تلك الحقيقة أو يعطلها، ربما سيسعى إلى البرهنة عليها طال الزمان أو قصر؛ وهذا ما حدث فعلا.
اليوم جملة من نوع (الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس) هي حقيقة علمية؛ وهي من البديهات التي لا جدال حولها، لكنها جملة وقبل أن تصبح بديهية كانت قد سبقت بجملة فيها اسم اعتقاد من نوع (أعتقد أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس). كان غاليليو في طور الاعتقاد الأول قبل أن يصبح متأكدا ليقول (أنا أجزم أن الأرض تدور حول الشمس). كل الحقائق العلمية اليوم هي جمل أضمرت فيها واسمات الاعتقاد الجازم، التي كانت في أصلها واسمات اعتقادات شاكة في حقائق راهنة سائدة تسمها في الأذهان اعتقادات جازمة. الاعتقادات الجازمة أو الشاكة التي هي في الحقيقة مضمنة في الحقائق العلمية، في بدايات مراجعاتها وتثبيتها تنخرط في ما نسميه لغة الانحياز.
لغة الانحياز التي تبدو مغيبة من اللغة العلمية، بدعوى أن هذه اللغة موضوعية، هي في الحقيقة حاضرة فيها، بل مؤسسة لها؛ ذلك أن الحقائق العلمية التي ندعي اليوم أنها مكتوبة بلغة لا انحياز فيها، كانت في وقت ما لغة انحياز فيها شك في السائد، وتعبير عن معارضة وعدم «إعجاب» بأن تسود على مرّ الدهر، حقيقة واهية. كثير من الحقائق العلمية التي عاشتها الشعوب على أنها كذلك، ثبت وهمها في ما بعد؛ واللغة العلمية التي أقصت عنها كل انحياز، لم تمنعها من أن تكون في ظرف ما موضوع انطباعات وانحيازات وانفعالات لا بد منها كي تراجع من جديد.
لغة الانحياز لا تكل ولا تتعب ولا تهن، هي دائما وأبدا تعمل طالما أن وراءها متكلم يعيش الحيرة والانفعال الأبدييْن، ليس في عصر العلم وحسب، بل حتى في عصر الأسطورة أيضا.
اليوم في العربية نحن نذكّر البحرَ، لكن لغاتٍ أخرى كالفرنسية تؤنثة. أن يذكّر البحر في لغة ويؤنث في أخرى ففي ذلك انحيازٌ مقولي إلى أحد مقولتي الجنس، وليس الانحياز واقعا خارج خلفية ثقافية يمكن أن تغطيها الأسطورة. البحر في الأسطورة اليونانية القديمة ذكر وأنثى فهو في بعض رواياتها الإله الذكر بونتوس، وهو في رواياتها الأخرى الآلهة الأنثى تالاسا. بونتوس في الأسطورة اليونانية القديمة هو ابن غايا الأرض؛ هو في الحقيقة صورة مشخصة ومذكّرة للبحر. وفي الأسطورة أن أم البحر وهي الأرض ولدت البحر من دون أب، مثلما ولدت السيدة العذراء المسيح من غير أب، حسب الرواية المسلمة. وتالاسا آلهة أنثى هي أكثر ارتباطا بالبحر الأبيض المتوسط، هي ابنة أيتير وأيميرا إله النهار. أن يكون في الأسطورة الواحدة (الإغريقية) رديف ذكر للبحر وآخر أنثى، فهذا نابع من كون الرضا بواحدية الجنس لكيان طبيعي مثل البحر غير ممكن في العقيدة المؤمنة، بفعل الطبيعة الاستعاري المترجم إلى فعل الإخصاب للذكر، وقابلية الإنتاج بالإخصاب للأنثى. هذا الاعتقاد يزرع سردا في الأساطير النشوئية، ويزرع اختيارا مقوليا في اللغة، فتميل لغة إلى تذكيره، وتميل أخرى إلى تأنيثه وخلف التذكير والتأنيث، موقف لغوي فيه انحياز، رغم أن التذكير والتأنيث تبدو مندرجة في مقولات وضعية غير منحازة.
ونحن نمارس اللغة يوميا نمارس الانحياز أكثر بآلاف المرات مما نمارس عدم الانحياز؛ يكفي أن تقول (أنا) لتنحاز إلى نفسك، وتتملك الكون باللغة، ويكفي أن تقول (أنت) لتضع نفسك في حوزة تطل منها على غيرك المقابل لك الحاضر معك. ولا يعني أن تقول (أحب أن أبقى وحدي) أنك صرت انعزاليا؛ أو تقول (أحب أن أكون معكم) فتكون اجتماعيا؛ في هذا وذاك لغة منحازة. وإن قلت وأنت تلقن الناس درسا في الموضوعية العلمية (الأجدر بلغة التحرير في البحوث العلمية أن تكون موضوعية) بهذا القول وأنت في مدينة عدم الانحياز ستكون منحازا.
(صدر المقال بالقدس العربي، في نفس اليوم)