ذكرني أحد الأصدقاء على شبكة التواصل الاجتماعي بمقولة للمرحوم شكري بلعيد بتاريخ 7 أفريل 2012 (https://www.youtube.com/watch?v=a4z7W68K4Qg) فقادني إعادة التمعن فيها لهذا التعليق الذي سبق لي أن عبرت عنه والذي ما انفك يجد في مسار الأحداث ما يدعمه
لا يمكن بحال من الأحوال أن نجزم، كما يمكن الحال بالنسبة لحمه الهمامي مثلا، بأن شكري بلعيد في ثمانينيات القرن الماضي هو نفسه الذي برز بصفة خاصة سنة 2011، خاصة في القصبة 4 والقصبة 5، وهو نفسه الذي طلع على شاشة إحدى التلفزات الخاصة بتعليقه في 7 أفريل 2012، في سياق الذكرى 11 لوفاة الزعيم. الرأي عندي أن شكري بلعيد استوعب أهم درس في حياته (خلافا لعديد رفاقه) من النضال سنة 2011 للمطالبة بمجلس تأسيسي لم تنل منه الجهة السياسية المناضلة إلا بعض الفتات في حين غنم منه السلطة، كل السلطة، الاتجاه الإسلامي والانتهازيين من المحسوبين على اليسار
هذا هو نص مداخلة المرحوم في الحصة التلفزية
“تكمن أهمية بورقيبة في القرارات الخمس الكبرى التي اتخذها، هي ليست نابعة منه ولكنه من اتخذها. أولها إعادة التقسيم الإداري للبلاد، إجراء قامت به الدولة لإضعاف القبلية والعشائرية. القرار الثاني الخطير (بمعنى الهام جدّا) هو إصدار مجلة الأحوال الشخصية والذي مكّن من إعادة هيكلة الأسرة التونسية وفكّك الأسرة التقليدية وهذا قرار نابع من موروث إصلاحي كبير في تونس بدءا من الطاهر الحداد وصولا إلى الشيخ جعيّط الذي أنجز المجلة ولكن الذي كانت له القدرة على اتخاذ القرار السياسي والجرأة الكبيرة هو بورقيبة ولو تأخر قليلا ما كان بإمكانه فعل ذلك، لقد التقط اللحظة المناسبة. القرار الخطير الثالث الذي اتخذه بورقيبة هو توحيد التعليم وإعطاؤه الصبغة المدنية وهو ما لعب دورا في توحيد الثقافة وجعل الاندماج الاجتماعي يتمّ على أسس مدنية، أمّا القرار الرّابع الذي اتخذه فكان توحيد القضاء حيث لم يعد عندنا قضاء مزدوج (قضاء شرعي وقضاء مدني) مثلما هو الحال في الشرق وعديد الدول وبهذا خلق منظومة قانونية وضعية منسجمة. القرار الخامس الهام الذي اتخذه هو أنّه فكّك الأحباس والأوقاف وضرب الأساس المادي المالي للقوى المحافظة التقليدية التي كانت تتستر بالدين
كلّ هذا جعله صاحب مشروع للتحديث والتعصير ولكنّ بورقيبة هو في نفس الوقت ابن التقليد الشرقي، تقليد الدولة الاستبدادية، تقليد الحزب الواحد، تقليد الزعيم الواحد، تقليد عبادة الشخصية، تقليد إلغاء الآخر، تقليد عدم قبول الاختلاف، تقليد المحاكمات، تقليد تصفية الأحزاب، تقليد قمع الخصوم، تقليد التعذيب
كان بورقيبة يمثل الجيل المؤسس، فعندما نقول بورقيبة والتعليم فإنّنا نقول محمود المسعدي لأنه صاحب المشروع… وعندما نقول محمود المسعدي فإننا نقول برنامج الاتحاد العام التونسي للشغل، لذلك فالقوى التقليدية والقوى المحافظة والقوى الرجعية الآن تكنّ حقدا كبيرا على محمود المسعدي لأنه الوجه الآخر لبورقيبة، وجه الإبداع والثقافة… وعندما ننظر في الموقف من المرأة بالنسبة لبورقيبة كان يندرج في إطار تصوّر لمجتمع جديد وكان ذلك تحت تأثير ثقافته الفرنسية وتحت تأثير تعاطيه مع منجزات العصر، لذلك كان في هذا الجانب تنويريا ولكنه كان في الوقت ذاته ابن الثقافة العربية الإسلامية بوجهها غير التنويري المتمثل في “أنا الدولة والدولة هي أنا”، فعندما يقول للتونسيين “أنتم حفنة من الأفراد وأنا جعلت منكم أمّة” هذا خطير لأنّ تونس لم تبدأ مع بورقيبة، لقد بدأت قبله بكثير، بقرون وقرون، وستبقى بعده بكثير، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها”
الرأي عندي هو أن هذا التصريح للمرحوم شكري بلعيد قد يكون هو الذي أتى بالبعض مما جعله يقتل 10 أشهر بعد هذا التعليق، أي في 6 فيفري 2013، دون غيره من أهل اليسار (وقبل أن يلتحق به المرحوم البراهمي). إذ يبدو واضحا هنا أن شكري بلعيد قام بمراجعة فكرية وسياسية لماضيه ولمرجعياته الأيديولوجية فقام فيها بقطيعة ثقافية هامة جعلته يتخلص من المحاصرات الدغمائية التقليدية وأهلته لتبني مراجعة حداثية عامة تتبنى المسافات الضرورية من التقليدية الإسلاموية وحتى العروبية (وإن كان التنظيم السياسي الذي ينتمي له لا يركز على ذلك) وكذلك من التبعية غير المعقلنة لغرب الأنوار. أصبح بذلك شكري بلعيد رمزا لمستقبل سياسي يمكن أن يوحد اليسار و”الدساترة” وعديد المستقلين، خاصة من بين المثقفين. ويندرج ضمن هذه المراجعة كل ما جاء بعد ذلك، حتى حدود تصريحات شكري بلعيد على نفس القناة، يوم 5 فيفري 2013 ، متهما النهضة “بالفشل في قيادة المرحلة الانتقالية والرغبة في الهيمنة على المؤسسات والمشهد السياسي ومنتقدا إياها لتساهلها مع السلفيين المتشددين”
فلعله صار بذلك مصدر حرج وتحسب حتى لرفاق دربه في النضال وخاصة لمنافسيه السياسيين. لذلك، هم لا دخل لهم في مقتله، لكن كثيرا منهم ركب على الحدث باستثمار سياسي لا علاقة له بما كان يفكر فيه شكري بلعيد وما كان يطمح إليه بعد المراجعات والتحيينات والتعديلات الفكرية والسياسية والثقافية التي فرضها عليه الواقع وتفاعل معها فكره النقدي وإحساسه بأهمية النقد الذاتي أولا وقبل كل شيء
ويبقى السؤال أيضا، أي قراءة في ذات السياق، يمكن أن نقوم بها تجاه هذا الحدث الآخر الذي جاء ثلاثة أسابيع بعد اغتيال محمد البراهمي: ” التقى كل من زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي ورئيس حركة نداء تونس الباجي قايد السبسي يوم 15 أوت الجاري (2013) في باريس للتباحث حول مجريات الأوضاع التي تعيشها البلاد وسط تعتيم اعلامي”؟