أرى في الأفق بدايات تنظير (ستالينية الأسلوب) للاستبداد. .. وطبعا يعني هذا أن ثورة الحرية والكرامة (2011) لم تكن ثورة عبرت عن نضج المجتمع واستعداده التاريخي لإشكاليات الحرية. وهذا ما كان يخشاه الكثير من المثقفين الذي تمت إهانتهم وتم الحط من شأنهم اجتماعيا. لو كانت ثقافة الحرية ناضجة في التونسيين لما أمكن بمثل هذه السهولة أن يقبل “الشعب” التراجع عنها مهما كان الثمن… غالطتمونا بثورة “الحرية والكرامة” حين كانت مطالبها مسقطة حتى تم بها تشويه – بل تم تحويل مطلبها الاجتماعي العميق إلى مطلب “ديمقراطية الربيع العربي”، وها أنتم اليوم تغالطوننا بثورة الاستبداد التي أصبحت تكذّب كل نزوع إلى حقوق الإنسان وإلى حرية المعتقد وحرية الضمير. متى ستفكون قيود المجتمع وتتراجعون عن ارتهانه باسم الإيديولوجيات ؟ لا احاجة للتونسيين بعمر بن الخطاب ولا برضا لينين ولا بإشراقات قيس سعيد المجالسية : من أراد أن يعرف حقا ماذا يريد الشعب عليه بالإنصات. الإنصات ليس تجميعا للشعارات من أجل تطبيقها، وليس تهجيا لها على الجدرات ظنا بأنها هي دستور التونسيين ، وإنما عملا على فهمها، أي مجهودا يرمي إلى إدراك ما تعبر عنه، مما قد لا يكون صريحا في الشعارات بل قد يكون متخفيا وراءها : ما طبيعة القلق الاجتماعي؟ ما مضمون الخوف الذي يسيطر عليه؟ وما دور الدولة في الاستجابة لهذا الخوف؟ هل دورها الحماية ؟ هل دورها المرافقة ؟ هل دورها تنظيم التفاعل وحتى تنظيم الصراع ؟
هذه هي الإشكاليات المطروحة اليوم على العقل التونسي وحتى على العقل العربي الذي لم يعد من الممكن التعامل معه مثلما نتعامل مع أفواه جائعة نرمي إليها الفتات لتشبع. إن مخاوف الناس هي ظاهرة متشعبة لا يمكن إسكاتها بمجرد الفراغ من إطعامها. إن التعامل السياسي مع مخاوف المجتمع على أنها مخاوف من الجوع سيتفطن ضد كل توقع إلى أن الشبع لا يطفئ تلك المخاوف وأن مشكل الناس لئن كان مشكل جوع فإنه مشكل إنسانية كذلك .. لا بد من تأويليات للقلق الاجتماعي ولا بد لتقنيي السياسة – إذا ما هم أرادوا أن تكون لهم رؤية – أن يتجاوزوا تصور عمل الدولة كمجرد إشباع للحاجات. لا بد لهم من إنصات لمطالب القلق الاجتماعي فيما أبعد من مجرد عواء الأمعاء. فحصر القلق في فراغ المعدة هو استبدال لفقر بفقر ليس إلا. ولكن ذلك ليس هو ما يريده الشعب.