إستمتعت خلال الفترة الأخيرة بالأداء الرائع لوزيرة السعادة التونسية، وانبهرت بأنس تونس في كل اللقاءات الحوارية التي لحقت مبارياتها. كانت محاورة تملأ المحيط سعادة بابتساماتها وبضحكاتها وبتلقائيتها وعفويتها وعشقها لتونس المشع من كلماتها وسلوكها وتفاعلاتها مع أسئلة محاوريها بذوق رفيع وببديهة الأذكياء. أنس بطلة غير عادية بما حققته إلى حد الآن، وهي مثال للنجاح جديربالاهتمام والدراسة، ومن ثم الاقتداء بها لصناعة أبطال المستقبل في التنس وبقية الرياضات.
أنس هي صناعة تونسية مائة بالمائة مدعاة للفخر ولتعزيز شعورنا بالإنتماء لهذا الوطن الجميل والمعطاء. في تونس ثروة بشرية بعضها طفح على السطح وسطع نجمه بمجرد أن أعطي نصف فرصة وآخرون تم اكتشافهم في الخارج قبل الداخل. ثروتنا البشرية لا تقتصر على الرياضة بل تمتد لجميع المجالات وأخص بالذكر منها العلمية والتقنية. سفراء تونس في كل دول العالم يحظون باحترام كبير، ومنهم من يتحمل مسؤوليات قيادية واشرافية في أرقى الشركات. لجميع ما سبق، صورة تونس كانت ولا تزال أجمل من الخارج مقارنة بالداخل. أذكر طرفة لأحد الأصدقاء والزملاء العرب حين كان يقول لي وبعض الزملاء التونسيين في مزج بين الجد والهزل معلقا على أوضاعنا السياسية ” والله إنكم لتستحقون أفضل مما أنتم عليه “. كنت أبتسم شكلا واتألم سرا لإيماني الراسخ بأن تونس فعلا تستحق وضعا أفضل مما هي عليه لو تحملت نخبة البلاد مسؤولياتها وكانت فاعلة ومؤثرة. وأتساؤل هنا ما الفرق بين وجودها من عدمه إذا كانت عاجزة كل هذا العجز على أن تلعب دورها عند الشدائد ووقت الأزمات. أقول هذا ولست مقللا أو ناكرا للمحاولات الجدية والصادقة.
” صنع في تونس ” قد لا تعني الكثير للكثير، وربما يحتاج هذا لدراسة معمقة من قبل أهل الاختصاص. من أجمل ما أذكر في علاقة بهذا الموضوع مقولة منسوبة للفقيد “سي” البشير سالم بلخيرية ” اشتري صنعة بلادك توفر خدمة لأولادك “. كانت جملة شهيرة تكتب على علب الكبريت من أجل التسويق وحث الناس للإقبال على المنتوج التونسي.
اليوم وبكل أسف، أخطر ما في الأمر هو بروز فئة من التونسيين الغير تونسيين. ولائهم للخارج قبل الداخل بناءا على أيديولوجيا لا تؤمن بالأوطان. وفئة أخرى لا تقل خطورة عن الأولى فهي تعطي الأولوية لدول بعينها قبل وطنها الأم أو لشركات أجنبية على مؤسسات عمومية تقتات منها ميزانية الدولة، كل ذلك متخفية وراء ستار العولمة والجودة … وهي في حقيقة الأمر تفعل ذلك من أجل مصالح حزبية ضيقة أو امتيازات شخصية. الفئة الاقلّ خطورة هي التي تتصرف بردّة فعل عفوية بناء على تجربة سيئة أو بحثا عن منتوج وخدمات أفضل مما هو متوفر وطنيا. من طرائف الواقع ان يشتري أحد صغار التجار مجموعة من الآلات الكهرومنزلية أو الملابس الجاهزة والأحذية المصنوعة محليا ثم يضعها في حقيبة يراها الناس بكل ما فيها من علامات وكأنها قادمة من المطار مباشرة، فيتزاحم الناس لشراء بضاعة متوفرة في أغلب المحلات التجارية بسعر أغلى من سعرها الحقيقي. الأغرب من هذا أن يضع أحد الصناعيين في تونس منتوجا محليا يتمثل في آلة للقيس ويكتب عليها ” صنعت في دولة أجنبية” ويقبل عليها الصناعيون في تونس بل ويوصون بها زملائهم !
قضيت فترة في السويد زمن التسعينات وكنت في ثرثرة مع بعض الأصدقاء أسأل عن أفضل السيارات بالنسبة لهم. وخلال حديثي سألت أيضا عن سبب امتلاك كل المسؤولين تقريبا لسيارات سويدية الصنع فكان جوابهم بان لا شيء يلزمهم على ذلك سوى تعبيرا على وطنيتهم وانتماءهم وافتخارهم بالصناعة السويدية مع أني اكتشفت في ما بعد بأن العديد من الشركات المستوطنة في عدة دول ليست سوى فروعا تابعة لشركات عالمية لا معنى للجنسية لها.
أذكر أيضا كمثال من فرنسا الإنتقادات اللاذعة التي لاحقت رئيسة وزراء فرنسية بسبب امتلاكها لسيارة غير محلية. ملخّص القول، كل الشعوب تفتخر بأوطانها وكل ما يربطها بها من صناعة وخدمات إلاّ الشعوب التي اختارت أن تكون مهزومة فتراها تسارع إلى الإشادة بإنجازات الغير مستنقصة من إنجازات دولها إلى درجة إنكارها لو استطاعت لذلك سبيلا. الاستثناء الوحيد الذي لم ينافسنا فيه إلى حد الآن وأؤكد على ” إلى حد الآن ” هو موروثنا وتراثنا الثقافي والغذائي…
لعلّ البطلة المتألقة وزيرة السعادة توقض بعض الضمائر، لعلّ الرياضة تكون عاملا موحدا للتونسيين، وكلّ الأمل في أن تعيد لنا الثقة في أنفسنا وفي إمكانياتنا حتى نكرّس فعلا شعار ” المستحيل ليست تونسية”.