جَسَدُ النَّصّ: قراءة في ديوان حسن نجمي “يتشهاك اللسان”. بقلم د. منير سرحاني
1- في العمل الشعري الجديد ذي البُعْد الإيروسي (الإيروتيكي)، “يتشهاك اللسان” للشاعر حسن نجمي، تتخلى المرأة عن جَسَدِها لتتحول إِلى امْرأةٍ نَصٍّ.
الجَسَد الحقيقي في هذا العَمَل هو الذي يتَخيَّله الشاعر.
وَيْصنَعُ الشّعْرُ هُنَا مِساحَةَ اللَّحْم الملائمة لكي يُرمِّمَ أو يُعَالِج بعضًا من العُيُوبِ ومكامِنِ النَّقْص.
المرأة هنا مجردُ ذَريعَة توحي بالنَّصّ الشعري، وتوفّر فضاءً وإِمكانيةً للكتابةِ الإِيروسية التي اخْتَطَّها الشاعر أفقًا لهذا العَمَل الذي استَغْرَق منه وقتًا منذ أن أعلن في بعض حواراته، قبل أكثر من عشر سنين، عَنْ أنَّهُ انخرط في الاشْتِغَال على عَمَلٍ شِعْرِي إِيروتيكي قبل أَن يأتي من يهمس في أُذُنِهِ وفي حُلْمِهِ بالعبارة – العنوان، “يتشهاك اللسان” !
2- كلُّ شيء في هذا العمل الشعري مجرد رهانٍ وظيفي (un enjeu fonctionnel)، أو بالأحرى لَعِبٌ بالكلمات.
القَوْلُ الشعري يَغْلبُ المَعِيش. وكلُّ فِعْلٍ للكتابة هُنَا هو اشتغالُ “خطابٍ عاشقٍ”، بتعبير رولان بارتْ، (خطاب عاشق وليس رجلًا عاشقًا).
الشاعر لا يستمتع – هو شخصيًّا – بالجَسَد الأُنثوي، وإِنما يستمتع فحسب بلُغَته الواصفة التي يُجَسْدِنُها، باشتغال ملفوظاته ومفرداته ولغته واستعاراته وصُوَره ومَشاهِدِه. وحتى الاستيهام خادع : جَسَدُ المرأة هو أكثر إثارة إلى الحدّ الذي يصبح معه الشاعر عاشقًا لِلَّعِبِ المُنْقَلِب على الحُب.
• “إِنَّ امرأةً موْطُوءَة هي امرأة منطفئة. Une femme atteinte est une femme éteinte.” والشرارة الوحيدة للمتعة (jouissive) هي الشّعْر باعتباره جَسَدًا “بدون أعضاء ” (جنسية) كما كان يقول جيل دولوز.
3- الإيروسية هُنَا هي فنّ إِخْراجٍ شِعْري بالصورة (mise en image). ومن ثم فهي تنفي التجربة الجسدية المُبَاشِرة، ولا تترك أي إِمكانية لواقعية الحدث الشّعْري، وإِنَّمَا تحتفي فحسب بِسِحْرِ اللَّعِب.
الشاعر يُدَاعِبُ اللَّذَّة (Il badine le plaisir) لكي تبقى القصيدة هي الفضاء الجدّي الوحيد للتلذذ. ومن ثَمَّ فإِن قراءة هذا الشّعْر بنظرة قد تَنْزَعُ إلى أُفقٍ بْيُوغرافي للشاعر أو تُحيلُ على حياته الواقعية لن تكون سوى نوعٍ من الاختزال أو الاعتداء على روح الكتابة. على العكس فَإِنَّ الجَسَد الفيزيقي الذي قد يبدو الأكثر حضورًا في القصيدة هو الأكثر انفلاتًا وهروبًا ونَأْيًا حيث يترك أمْكِنَتَهُ لجَسَدِ الكتابة. وبالتالي، فالكتابة الإِيروتيكية تُجرِّبُ هُنَا جَسدًا آخر، جَسَدَ النَّص الذي يتحقق عَبْر استعارات النساء.
إن المرأة لا تُوجَدُ هُنا، وإنما تُوجِدُ – هي ذَاتُها – إمكانيةَ وأُفُقَ تَخَيُّلها.
نظرةُ الشاعر هي التي تُغْري الجَسَد لتَرْتَقيَ بِهِ إِلى صَفّ الكلمات، وتحوِّلَهُ إِلى قول شعري، إِبداعي وجمالي.
4- جَسَدُ المرأة، في آخر المطاف، يَتِمُّ اختراعُه (inventé) : فالشاعر يُبْدِعُه انطِلاقًا من فكرة شعرية عن نَصٍّ إِيروتيكي منشود، وبالتالي يُوفّر لهذا النَّص مَلاذًا ومَادَّةً.
إِذا حاول أَيُّ قارئ تقليدي أو محافظ أن يبحث عن الجسد (اللحم الواقعي)، لن يجد شيئًا، بينما سيجد القارئُ المُتَمرِّسُ على لعبةِ الكتابة القصيدة وهي تنبثق من رحمها، من المُتَخَيَّل ؛ ومن ثَمَّ هذا الشعر الذي يَنْكَتِبُ عَبْرَ لَحْمٍ أُنْثَوي ناءٍ في الخيالِ أو في الحُلْمِ، وفي اللَّامكان لكي يُولَدَ كَنَصٍّ وكأفقٍ للتلذذ.
في العمل، ليس هناك جَسَد لأنه ليست هناك بُّورْنُوغْرافيا. هناك فقط احتفالٌ بالجَسَد، بالأُنْثَى، بالغيْرية وبالحياة.