في مسرح الحمامات، لطفي بوشناق يغني للحب والوطن والمرأة
ابتسامات النساء تشعّ بألوان الفرح
في ليلة من ليالي الصيف التي يتألق فيها الفن على ضفاف الحلم، كان ركح مسرح الهواء الطلق بالحمامات على موعد مع صوت الوطن، لطفي بوشناق، الذي ارتقى بالذاكرة والوجدان في واحدة من أبهى سهرات الدورة 59 لمهرجان الحمامات الدولي. لم ينتظر الجمهور كثيرًا ليملأ المدارج قبل الموعد، فقد حضر باكرًا بشغف العاشق، مدفوعًا بحنينٍ لصوت شكل وجدان أجيال، وارتبط اسمه بتاريخ الأغنية التونسية والعربية، فنّانٌ لا يُنتظر منه سوى أن يفي بما وعد دائمًا: عرضٌ يحترم الذائقة، ويُخاطب العقل كما القلب.
منذ أن خطا خطواته الأولى على الركح، بدا لطفي بوشناق كمن يعود إلى بيته. أطلّ بلباسه التقليدي، وتقدّم فرقته بثبات العارف، ليُطلق العنان لعرضٍ لا يشبه سواه. كان صوته كما عهدناه: دافئًا، صافيًا، عابقًا بخبرة خمسين سنة من العطاء الموسيقي والبحث الجمالي. لم يكن العرض مجرد غناء، بل لحظة التقاء بين فنان بلغ النضج وذائقة جمهور وجد في حضوره ما يطمئنه إلى أن الفنّ التونسي ما يزال قادرًا على التجدد دون التفريط في الأصالة.
إن ما قدّمه لطفي بوشناق لم يكن مجرّد غناء، بل خلاصة مسار فني يتكئ على طاقة صوتية خارقة، وعلى ذكاء موسيقي فطري، يُحسن اختيار الكلمة واللحن ويمنحهما عمقًا إنسانيًا وجماليًا. فهو فنان يعرف كيف يوازن بين الوفاء لتراثه والانفتاح على أساليب تعبيرية جديدة. وقد ظل محافظًا على رقي الكلمة واللحن في زمن تسوده السرعة والسطحية، ما جعله يحظى بتقدير مختلف الأجيال من جمهور يحب أن يُخاطب بعقل وقلب في آن.
افتتحت السهرة بوصلة موسيقية مهّدت للانتقال التدريجي إلى مجموعة من أبرز أعمال بوشناق، التي عُرفت بقدرتها على الجمع بين الأصالة والتجديد. فقدم أعمالاً من أرشيفه الخاص من بينها “حبيتك وتمنيتك” و”أنا حبيت وتحبيت” اللتين ردّدهما معه الجمهور وترجما متانة العلاقة بين الفنان ومحبيه. كما أدّى باقتدار الأغنية الوطنية “أحنا الجود”، إلى جانب “كل ما فيك حبيبي” و”يا ساكنة الفوق”.
ومع كل أغنية، كان صوت بوشناق يُنقّب في أعماق الوجدان التونسي، يستخرج ما تبقّى من رجاء، ويعيد بثّه على شكل نغمة. بدا عرضه وكأنه دعوة هادئة للتماسك، ومصالحة مع الذات الجمعية التي أنهكتها خيبات السياسة وضجيج الراهن. فكان حفل بوشناق أكثر من سهرة موسيقية، بل لحظة رمزية تعيد شيئًا من الأمل لتونس والتونسيين، تُذكّرهم بأن الفن الحقيقي قادر على ترميم الكسور، وفتح نوافذ مضيئة وسط العتمة. لقد بدا وكأن صوت بوشناق يردّد في باطنه: “مازال ثمّة ما يستحق الحياة… والغناء”.
تدرّج إيقاع الحفل تصاعديًا ليبلغ ذروته مع أغنية “العين اللي ما تشوفكشي” حيث بدا التفاعل الجماهيري في أوجه واستمر بوشناق في الغناء دون انقطاع قرابة ساعتين، قدّم خلالهما مجموعة من أعماله الشهيرة وسط تفاعل جماهيري كبير تحوّل فيه الحضور إلى كورال مردّدين أغنيات مثل “هاذي غناية ليهم” و”تبدأ الحكاية” التي شكّلت جزءًا من الذاكرة الجماعية لمحبيه.
واختتم الفنان السهرة بأغنية “يا نوار اللوز”، التي عُرفت كموسيقى جينيريك لمسلسل “نوبة/عشاق الدنيا” من إخراج عبد الحميد بوشناق، ثم قدّم “يا للا وينك” وهي من أغانيه الشهيرة التي جمعت بين الجمالية الفنية وعمق المعاني، خاصة في التغني بالمرأة التونسية وإبراز محاسنها الأخلاقية والخلقية، وتعبر أيضًا عن الوعي الوطني والانتماء للثقافة التونسية.
وتميّز العرض بتوازن لافت بين مختلف الألوان الموسيقية من الطرب إلى الفن الشعبي، وأكّد الفنان في اللقاء الإعلامي الذي أعقب العرض أنه حرص على تقديم محتوى متنوّع يشمل أعماله القديمة والجديدة، في محاولة منه لمخاطبة جمهور متعدّد الأذواق والانتماءات العمرية.
لقد كان لافتًا تركيز بوشناق على الغناء للمرأة، في سياق أوسع يكرّس صورتها كعنصر محوري في المجتمع والثقافة. في أغانيه، تظهر المرأة في مختلف وجوهها: الحبيبة، الأم، الرمز، الوطن… وكأنها تختزل معاني الانتماء والوفاء والتوازن. وقد عبّر عن إعجابه بالمرأة التونسية وما تمثّله من قيم وقوة وثقافة، فجاءت أعماله صادقة، خالية من الابتذال، تحتفي بالجمال الداخلي قبل الخارجي، وتُعلّي من شأن الحب النبيل ..
ولأنّ لطفي بوشناق لا يغني لجمهوره فحسب، بل يغني معه، فقد فهم أنّ الجمهور يحتاج أن يكون شريكًا لا متلقّيًا فقط. لذلك منحهم “المصدح” ، وجعلهم يشاركونه الغناء بانسجام وفرح، فذابت الحدود بين الفنان ومدرّجات الجمهور، وتحولت السهرة إلى لحظة جماعية من البهجة والانفعال والانتماء الفني.
أمام تباين للآراء، لم تخل السهرة من بعض الأصوات الناقدة التي رأت في مشاركة الجمهور بالغناء مع لطفي بوشناق نوعًا من التفريط في الطابع الفني أو فقدان للرصانة المطلوبة في الحفل. غير أن هؤلاء المنتقدين لم يدركوا بعمق قصده الحقيقي، فبوشناق لم يمنح “المصطاح” للجمهور من باب الترفيه السطحي، بل لأنه يؤمن بأن الفن الحقيقي يتجسد حين يصبح الجمهور شريكًا فاعلًا في اللحظة الموسيقية، لا متفرجًا سلبيًا. إنه يريد أن يجعل من الغناء فعلًا جماعيًا يُعيد وصل الروح بين الفنان وجمهوره، ويخلق حالة من التماسك والاحتفال بالحياة رغم كل التحديات.
جدد لطفي بوشناق الذي يُعد من أبرز رموز الموسيقى العربية الكلاسيكية، في هذه السهرة تأكيده على موقعه الراسخ في المشهد الثقافي كصوت غنائي وكصوت فكري وفني، ويصرّ على تقديم عروض تحترم ذائقة الجمهور ، الذي كان الجمهور في تلك الأمسية على قدر عالٍ من الحضور والحيوية، يملؤه شغف كبير وانسجام عميق مع أداء لطفي بوشناق، التونسي الأصيل الذي يحمل في صوته روح بلاده وتاريخها العريق. تسابقت الأيدي في التصفيق، وترددت الأصوات مع الكلمات بنغمة صادقة تعبّر عن حب حقيقي لفن الفنان. كانت طاقة الجماهير جميلة، متدفقة كأنه نهر يربط بين القلب والركح، تخلق أجواءً مليئة بالدفء والاحتفاء، جعلت من السهرة تجربة فريدة لا تُنسى.
بعد انتهاء الحفل، كان بإمكانك أن تلمح فرح النساء وغبطتهن، يضيئن الوجوه بابتسامات صادقة تنبع من أعماق الروح، ضحكاتهن كانت تنساب بحرية كأنها تنفيس عن طاقات مختزنة لفترات. لطفي بوشناق أدرك كيف يعيد لهن الضحك الحقيقي، كيف يجعلهن يفرحن بما لديهن من وطن، من جمال، من حبّ. لم يغنِ لهن فقط، بل غنى بهن، عبّر عن قصصهن وهمومهن وأحلامهن، منحهن مساحة للاحتفاء بذواتهن وبحياتهن، فكانت سهرة تتغنى بالأنوثة والهوية والانتماء، تزرع في النفوس بذور الفرح والكرامة.
ريم خليفة
الحمامات، 31 جويلية 2025