قم ترى: التراث الشعبي الجزائري في محراب التجريب
عرض موسيقي على ركح مهرجان الحمامات الدولي – 5 أوت 2025
في حضرة “قُم ترى”، لم يكن الركح مجرّد منصّة عرض، بل صار فضاء عبور، ومقاما من مقامات الوجد، حيث انفتحت أروقة الشعبي الجزائري على احتمالات صوفية، وتأملاتٍ موسيقية تقود المستمع لا إلى الخارج، بل إلى الأعماق.
اختار كريم موريس أن لا يقدّم تراث بلاده كمادة مغلقة، بل كبذرة قابلة للإنبات من جديد. كان قائدا لجوقة لا تعزف فقط، بل تتنفّس، تتأمّل، وتتجلّى. خلف الكيبورد والبيانو، بدا وكأنه يُحرّك الزمن نفسه، يُبطئه حينًا، يُسرّعه حينًا آخر، ليمنح المستمع فسحة تفكّر. وكأن العرض يهمس في أذن جمهوره: “قُم… لترى ما وراء السمع.”
أما حميدو، فقد بدا كدرويشٍ عصريّ، يغنّي لا ليستعرض الصوت، بل ليبلغ به مقام الكشف. صوته المترنّح بين الطرب والحنين، كان يُعيد تشكيل المعاني القديمة في قوالب جديدة، بصدقٍ نادرٍ وعُذريةٍ عاطفية لا تبحث عن إثارة، بل عن صفاء. في أغانيه، كان الحبّ شفافًا، نقيًّا، بلا نزق ولا طلب. حبٌّ يُشبه صلاة… يتألم في صمتٍ نبيل، ويحتفل بألمه كما لو كان طُهرًا آخر.
“زيدان”، “أنا عندي”، “خايف”، و”تلوموني”… لم تكن مجرد أغانٍ شعبية، بل صارت مواجيد. كل مقطع فيها يفتح بابًا من أبواب الروح، وكل لحن فيها طريقٌ إلى منطقة حرّة بين العشق والفناء. حتى أغنية “كورونا”، حملت أبعادًا تتجاوز الراهن، لتُصبح تأملًا في هشاشة الإنسان وسخرية القدر.
لم تكن الكتابة الركحية زينةً للصوت، بل امتدادًا له. وكانت حركة العازفين بمثابة رقصة داخلية، صامتة ولكنها شديدة التعبير. الضوء لم يُسلَّط بل نزل على الخشبة كما ينزل الفجر على صحراء صامتة. الإيقاع البصري كان في خدمة الرؤية الروحية، والمشهد برمّته بدا وكأنّه مرآة تعكس دواخلنا لا واجهاتنا.
جاءت الملابس، تلك اللغة الصامتة، بأناقة خالية من البهرج، فيها من نقاء التصوّف أكثر مما فيها من استعراض الركح. لا ألوان صاخبة، لا زخرف زائد، فقط حضور هادئ يسمح للمعنى أن يتجلّى دون وساطة.
“قُم ترى” لم يكن عرضًا، بل طقسًا فنيًّا. صلاة مشتركة بين العازف والمغنّي والجمهور. لحظة تتعانق فيها الجذور بالآفاق، ويقف فيها الإنسان في مواجهة ذاته، لا ليحكم عليها، بل ليرى… فقط يرى.
في خلفية هذا المشهد الوجداني، كان الفريق الموسيقي يشتغل بتناغم قلّ نظيره، لا بصفتهم مؤدّين يلتقون حول عمل، بل كعائلة تتوحّدها لغة خفيّة، اسمها المحبّة. كانوا متفاهمين بالصمت أكثر من الكلام، وبالنظر أكثر من الإشارة. بدا واضحًا أن ما يجمعهم أعمق من الحصص التدريبية أو الدقة الإيقاعية؛ إنّه ذلك الخيط اللامرئي الذي تُنسجه الموسيقى حين تُعاش بصدق وتُمارس بشغف.
كل آلة كانت تعرف موقعها في الخارطة الشعورية للعرض، وكل عازف يعرف متى يتقدّم ومتى ينسحب، كما لو كان كل واحد منهم يُنصت لقلب الآخر. وهذا الانسجام لم يكن مجرّد مهارة تقنية، بل كان نتيجة تراكم إنساني طويل: صداقة، احترام، ومحبّة صافية كانت تتسرّب من الأوتار والنغمات وتصل إلى الجمهور بلا وساطة.
في حضورهم الجماعي، كانت الروح واحدة وإن اختلفت الأجساد. كأنّ العرض لم يكن فقط إعادة كتابة للصوت، بل إعادة اكتشاف لمفهوم الفرقة، حين تصبح الموسيقى لغة أمّ، تفهمها الأرواح قبل الآذان.
ريم خليفة
الحمامات 5 أوت 2025
