نبيهة كراولي… حين تغني المرأة وتحيي فلسطين في ليلة إختتام مهرجان الحمامات
ركح الحمامات يودّع دورته 59 على إيقاع القضايا النبيلة
أسدل الستار مساء أمس الاربعاء الموافق لـ 13 أوت 2025، على الدورة الـ59 من مهرجان الحمامات الدولي تحت شعار “نبض متواصل”، بسهرة تونسية أحيتها الفنانة نبيهة كراولي، وقد تزامن الحفل الختامي للمهرجان مع الاحتفال بالعيد الوطني للمرأة، وهو ما حمل الفنانة والمنظمين مسؤولية مضاعفة، خاصة مع إطلاق حملة وطنية ضد العنف المسلط على النساء حيث غدت هذه الفنانة الناطقة الفنية باسم نساء كثر اخترن الصمت فتكلمت هي عنهن وغنّت بصوت عال. وقد تراوح الحفل الذي حضره جمهور نسائي في الأغلب، من أعمار وشرائح اجتماعية مختلفة، بين الغناء للمرأة وللحياة والزمان ولفلسطين الأبية.
عبرت الفنانة نبيهة كراولي عن سعادتها وشوقها لملاقاة جمهورها، الذي ردد معها كل أغانيها التي تربى عليها، وحفظها عن ظهر قلب وتفاعل مع كلماتها وألحانها، رقصا وطربا واستماعا، وقد اختارت أن تستهل الحفل بآداء اغنية “متشوقة”.
منذ النوتات الأولى لأغنية “متشوقة”، انسكب الحنين بين الفنانة وجمهور الحمامات. بصوتها العميق، أعادت نبيهة ذكريات حفلات سابقة على نفس المسرح، مؤكدة أنه “فضاء له روح خاصة”. كان الافتتاح بمثابة عناق موسيقي يهيّئ القلوب لرحلة غنائية متنوّعة الطبوع والألوان.
وفي قائمة الأغاني، أدت من رصيدها الخاص “إذا حبوك ارتاح” و”يمه” و”محلاها” و”ما تجيب أمارة” و”ليام والمكتوب”، وكلها أعمال تمثّل جانبا من مسيرة نبيهة الفنية التي دأبت على تطويع التراث الشعبي التونسي في سياقات فنية حديثة محافظة في الوقت ذاته على الأصيل من المقامات والكلمة.
وحين أدّت نبيهة “مبروكة” في نسختيها “تتبّرى” و”تتجلّى”، تحوّلت الأغنية إلى خطاب جماعي ضد العنف. بكلمات مشحونة بالعاطفة ووعي اجتماعي عميق، قالت: “مبروكة تمثل كل امرأة رفضت العنف وتمردت على واقعها”. بدا واضحًا أن الجمهور لم يسمع أغنية فقط، بل تلقّى رسالة مباشرة إلى القلب.
بينما كانت الأغاني تلامس وجدان الحاضرين، توقفت نبيهة لتخصّ فلسطين بتحية حارة عبر أغنية “أصبح عندي الآن بندقية”. عبّرت عن حيرتها في اختيار النص الأنسب لهذه القضية، قبل أن تستقر على هذا العمل الذي شعرت أنه الأقرب لما يعيشه العالم من ظلم وتشظي. اللحظة كانت ثقيلة بالمعنى، ومشحونة بالصدق، فوقف الجمهور احترامًا.
لم يكن الجمهور حاضرًا كصف من المتفرجين، بل كان موجة حيّة تتحرك مع كل نغمة. حضوره كان وفياً وذواًقاً، يعرف كيف يقدّر الأداء ويستمتع بكل تفاصيل العرض. في المقاطع الحماسية، ارتفعت الأيدي مع التصفيق المتزامن، وفي اللحظات المؤثرة خيّم الصمت العميق وكأن الجميع يحبس أنفاسه، مستمتعًا باللحظة ومقدّرًا كل نغمة وكلمة. بعض الحاضرين أضاءوا هواتفهم لتشكل الأضواء نقاطًا بيضاء تلمع في العتمة، فيما كان آخرون يرددون الأغاني كلمة بكلمة، خاصة المقاطع التراثية التي أعادت الحاضرين إلى ذاكرة جماعية دافئة. ومع كل انتقال موسيقي، كان التفاعل يتصاعد تدريجيًا حتى بلغ ذروته في الختام، حين وقف الجميع لتوديع فنانتهم بتصفيق طويل لا ينقطع، مؤكدين أن حضورهم ليس مجرد مشاهدة، بل مشاركة حقيقية في الاحتفال والفن.
تميزت دورة هذا العام بتنوّع العروض وتعدد الأذواق، حيث امتزجت الموسيقى التقليدية مع المعاصرة، والغناء العربي مع الغربي، والعروض المسرحية بالكوريغرافية المبتكرة. وقد شكّلت هذه البرمجة الفريدة جسرًا بين تونس والعالم، مقدّمة منصة لتلاقي الثقافات والإيقاعات المختلفة، من المغرب والجزائر وفلسطين ولبنان وسوريا إلى فرنسا وإيطاليا وكولومبيا. كل عرض حمل معه تجربة فنية متفردة، بحيث وجد كل جمهور ما يلهب حواسه ويغذي ذائقته، ليكون المهرجان فضاءً عالميًا يدمج بين الأصالة والتجديد.
ليست سهرات مهرجان الحمامات مجرد عروض على الركح، بل هي روح مدينة كاملة تتجدد كل صيف. في محيط المسرح، انتشر الفرح على وقع ضحكات الزوار، امتلأت الأرصفة بالحركة، ليصبح الفن هنا محرّكًا للحياة بقدر ما هو احتفاء بالجمال.
نبيهة كراولي، ابنة الجنوب، راكمت عبر مسيرتها أعمالًا تجمع بين الأصالة والتجديد، من “النوارة العاشقة” و”زخارف عربية” إلى “النجع”. من المعهد العالي للموسيقى إلى المسارح العربية والأوروبية، بقيت وفية لهوية فنية تعتبر الفن مسؤولية ورسالة، لا ترفًا.
لم يكن نجاح دورة الحمامات 59 محصورًا في الركح والعروض فقط، بل كان ثمرة جهد دؤوب لمكتب المهرجان الصحفي والإعلامي، الذي أدار التغطية بكل حرفية وتنظيم. عمل الفريق على تنسيق حضور وسائل الإعلام المحلية والدولية، وتسهيل وصول الصحفيين والمصورين إلى جميع فعاليات المهرجان، مع توفير المواد الصحفية والصور عالية الجودة بشكل منظم. مما ساهم في نقل أجواء المهرجان مباشرة إلى الجماهير في تونس وخارجها، وجعل من كل سهرة حدثًا يمكن متابعته ومشاركته حتى لمن لم يكن حاضرًا على المدرجات. هذه الحرفية الإعلامية أكسبت المهرجان حضورًا عالميًا متكاملًا، مؤكدة على أن التنظيم الجيد جزء لا يتجزأ من نجاح أي تظاهرة ثقافية دولية.
مع انتهاء عرض نبيهة، أسدل الستار على دورة ضمت 36 عرضًا من 14 دولة، جمعت الموسيقى والمسرح والكوريغرافيا، واحتفت بالتنوع الثقافي والقيم الإنسانية. وكما غنّت نبيهة للمرأة وفلسطين والأمل، غنّت تونس بصوتها للعالم، مودّعة مهرجانًا سيبقى في الذاكرة.
ريم خليفة
الحمامات 13 أوت 2025
