نصّ تقديمي لمعرض “أثر يقاوم وجوده”

فوزي تليلي – دار الثقافة بنابل – من 18أكتوبر الى 01 نوفمبر 2025
بين يدي الطين تبدأ الحكاية…
وتستمر في رحلةٍ لا تعرف النهاية، بين الصلصال والماء والنار والريح. من رحم الأرض، تنبثق الأشكال في بحثٍ دائم عن معنى البقاء، عن جوهر الأثر في مواجهة زواله. هنا، في هذا المعرض، لا تُعرض الأعمال بوصفها منحوتات خزفية فحسب، بل ككائنات تنبض بذاكرة التكوين، كأنها تستعيد، في كل تشقّق، سردية الوجود ذاته.
في هذا المعرض، يتقدّم الطين بوصفه ذاكرة حيّة، لا كمادة تُشكَّل فحسب، بل ككائن يتنفّس أثره في الزمن. “أثر يقاوم وجوده” ليس مجرّد عنوان، بل سؤال مفتوح حول ما يبقى منا بعد العبور، وحول العلاقة الغامضة بين الفناء والبقاء، بين التشكل والانمحاء.
تقوم التجربة على استنطاق الطين في لحظة تأزّمه: حين يتشقّق، حين يضعف، حين يتعرّض للنار والماء والهواء في آنٍ واحد، ليولد من جديد كجسدٍ هشٍّ وصامدٍ في الوقت نفسه. من هنا، يصبح الفعل الخزفي بحثًا وجوديًا، تتجلّى فيه الهشاشة كقوّة، والصلابة كذاكرة ألم.
في أعمال فوزي تليلي، تتجاور الأزمنة: الماضي الذي يُستدعى من عمق الأرض، الحاضر الذي يُصاغ بلمسة اليد، والمستقبل الذي يُترَك مفتوحًا داخل الأثر نفسه. كل قطعة هي شهادة على حوارٍ بين الإنسان والمادة، بين الصمت والبوح، بين الغياب والرغبة في الاستمرار . ” أثر يقاوم وجوده” هو رحلة في الطين كمرآة للذات، رحلة في مقاومة الاندثار عبر الفن، وفي جعل الهشاشة طريقًا إلى الوعي بالجمال، وبالحياة نفسها كأثرٍ دائم التجدّد.
“أثر يقاوم وجوده” هو عنوان يتجاوز الدلالة المادية نحو أفقٍ فلسفي أرحب؛ إنه مواجهة بين الكائن ومحدوديته، بين الفن وضرورته، بين المادة وقابليتها للاندثار. في هذا الفضاء، يتحوّل الأثر إلى فعل مقاومة، إلى صرخة ضدّ العدم، وإلى تأمل في هشاشة الجسد وعبقرية الأرض. تقوم تجربة الفنان فوزي تليلي على تفكيك العلاقة بين الإنسان والمادة، بين الذاكرة والزمن، وبين البقاء والاضمحلال. فالطين عنده ليس وسيلة تعبير فحسب، بل كائن رمزيّ حيّ يختزن ما لا يُقال: نَفَس الأرض، وشروخ التاريخ، وملامح الإنسان في بحثه الدائم عن أثر يخلّد حضوره المؤقت. من خلال سلسلة من الأعمال – مثل «صعود هشّ»، «طيات الذاكرة»، «جلد الأرض»، «مستوطنة الأثر»، «أغوار الأرض الصامتة»، و”أثر يلتف على ذاته “…

يقدّم الفنان مشهدية خزفية تتأرجح بين المعمار والعضوي، بين الامتداد والانكماش، بين الصعود والانطفاء. كل عمل منها هو شهادة على مقاومة المادة لقدرها، ومقاومة الفنان لفكرة الفناء. إن هذا المعرض ليس مجرد عرض لأشكال خزفية، بل هو تجسيد لفعل التفكير عبر المادة، حيث يصبح الطين مرآة للروح، والممارسة الفنية ضربًا من التأمل الوجودي. إنها رحلة في عمق الذاكرة الطينية، حيث تتقاطع الأسئلة حول المعنى، حول التكوين، وحول ما يبقى بعد أن يتداعى الجسد.
“أثر يقاوم وجوده” هو إذن بيان فنيّ عن الأثر كجوهرٍ للوجود، وعن الفن كسبيلٍ لمواجهة العدم. فالخزف هنا لا يقدَّم في جماليته التقليدية فحسب، بل في طاقته التأملية، في انكساره، في تشقّقه، في تآلفه مع النار التي تصهره لتمنحه حياةً أخرى. إنه أثرٌ يولد من العدم، يقاوم محوه، ويذكّرنا بأننا، نحن أيضًا، كائنات من طينٍ تقاوم غبار الزمن بالذاكرة وبالفن.

في هذا المعرض، تتجلّى الهشاشة كقوة، والصمت كقولٍ آخر، والأثر كحضورٍ يُستعاد عبر الغياب. إنه دعوة للتأمل في معنى أن نكون… أن نُشكَّل، أن نذوب، وأن نترك وراءنا ما يشهد على مرورنا في العالم.
فوزي التليلي

