الطلبة من جيل الثمانينات، وقبل ذلك أيضا، حصلوا على تعليم موازي في العلوم السياسية بمدارج المسارح وساحات المطاعم والمبيتات الجامعية. معارض وحلقات نقاش مرفقة في أغلب الحالات بإضرابات عن الدراسة مساندة لكل ما كنا نراها قضايا تحررية وعادلة، وقد شملت أساسا القضية الفلسطينية والثورات في كل أنحاء العالم مثل الشيلي والسلفادور وارتريا والقضية الصحراوية ضد كل الأنظمة الدكتاتورية في العالم. تجادلنا طويلا حول الثورة من أجل الخبز أو الأرض، والإعداد للثورة سرا أو علنا، ولم ننسى أو يفلت منا أي ملف وطني أو عالمي سوى واجباتنا الطلابية أحيانا. بعد عقود من الزمن، طبيعي جدا أن يختلف تقييمي لتلك المرحلة بايجابياتها وسلبياتها، وقد أتناول هذا الموضوع في مناسبة قادمة.
في بداية مشواري المهني، ومع أول صداقات مهنية أوروبية أو عربية، سألني أكثر من صديق لماذا لم تدخل عالم السياسة لما لاحظه من اهتمام لدي وإلمام نسبي بما يحدث في العالم. أجبته آنذاك بأن فاتورة السياسة في العالم الثالث مرهقة وكلفتها باهضة، ولذلك اخترت الهندسة لأنها غير مرتبطة بأي نظام سياسي، ومردوديتها معنويا وماديا مضمونة ومكانتها محفوظة في كل الأوطان. هذا الاختيار لم يمنعني طبعا بأن أتصرف بمسؤولية وبأن يكون لي موقف حر ومعلن، بكل أدب واحترام للإختلاف، من كل القضايا الوطنية والدولية. أجمل ما أتذكره من مرحلتي الجامعية ما قاله لنا ذات يوم أستاذ فرنسي الجنسية، وقد اعتبرت ذلك بمثابة الحكمة التي تبنيتها لاحقا ” في كل تصرفاتي وأقوالي يجب أن أفكر وأتساءل في ما سيقوله الناس لاحقا عن بلدي” . تنسى الأسماء مع مرور الوقت لكن اسم تونس وسمعتها باقيان.
في تقييم عن بعد سببه إقامتي خارج أرض الوطن، كنت أرى كل شيء على ما يرام، مع تحفظاتي ككل مثقف ومتعلم، على نقص الحريات في بلادنا، وبداية تقلص الطبقة الوسطى، مقابل انتشار الأثرياء الجدد، وخصوصا غياب الأفق السياسي بعد سنة 2010 ، أحسست وشعرت بأن النظام السياسي يحتضر دون إمكانية التخيل كيف ستكون النهاية؟
دون الخوض في جدل الثورة وتقييمنا لما حدث، سأترك الوقت للوقت من أجل الإجابة الشافية الضافية عن هذا السؤال. استبشرت أول الأمر كأغلب التونسيين وظننت بأنها فرصة تاريخية لبناء دولة ديمقراطية قوية وعادلة تضمن الكرامة والحرية ورغد العيش لأبناء الشعب. بضعة أشهر كانت كافية لاستشعر الخطر وأتوقع بأن تونس دخلت مرحلة الضياع وسقطت في أيادي السباع، والنتيجة تأكد ذلك فعلا. أعيد العبارات الجميلة من أجواء الرياضة، والتي تبعث بالأمل للتونسيين ” المستحيل ليست تونسية “. شهر جويلية الفارط مثل شرارة اهتز لها أغلب التونسيين فرحا. اعتبرها البعض تصحيح مسار، وآخرون انقلاب، ولم يجمع عن تشخيص وتوصيف ما حدث حتى أنصار الحزب الواحد. وأي كان التقييم، هي مرحلة وانتهت رافقها استبشار التونسيين بمستقبل أفضل. إيقاف النزيف والدمار الذي لحق بالوطن جميل، لكن الأجمل منه هو النجاح في إعادة البناء واسترجاع الدولة الوطنية. وهذا لن يكون من وجهة نظري سوى بثلاثة أشياء أساسية، وهي
أولا، بتشريك كل القوى الوطنية التي لم تكن شريكا في انهيار الدولة خلال العشرية السوداء في صياغة المستقبل.
ثانيا، التعويل على الذكاء التونسي في صناعة الحل المناسب لنا بعيدا عن الوصفات الخارجية المسقطة رغم موضوعية بعض عناصرها. لا يوجد حل سحري صالح لجميع الدول بمختلف ثقافاتها
وأخيرا وليس آخرا، وجب علينا اليوم الخروج من عقدة الماضي والاستفادة من كل خبراتنا الوطنية في مختلف المجالات وتشريكها في صناعة الحل ولا أراها ستبخل على الوطن بخبرتها وكل ما تملكه من صداقات وتجربة وعلاقات دولية
نعم، أعيد بأني لم أختر السياسة، لكن عندما تصبح العمالة وجهة نظر، والتآمر على الدولة ذكاء، يصبح الصمت خيانة، ويجب على كل التونسيات والتونسيين الانخراط في الشأن العام والاهتمام بالسياسة قبل أن تسلبهم السياسات الخاطئة ما بقي من هذا الوطن العزيز.