إليكِ أيّتها الغجريّة
الذّاكرة والكلمات
لم نكن مهيّئين للغواية. أحاول أن أشرح دهشتي أمام كبريائك وأنت تخمدين إيقاع رعشتنا. نظرت إليك، تفتّتت أنغام انحدارك نحوي دفعة واحدة. اختصرنا الموسيقى كلها في آهة وحيدة أحدثناها معا دون أن نقصد. حدست أنّك تخرجين عن مداري فانتفضتْ أعشابُ السّاحل الوبريّة وتعالت أصوات غريبة في الفضاء. كنت تجلسين حذوي لكن الصّمت الباذخ الذي لفّنا فتح أمام أعيننا ساحة من البياض، أخذت تتّسع حتّى شملت أحلامنا وعروق الموج الصّغيرة الذي التفتت نحونا وشرعت تجرّبُ حركات جديدة، تصعد عن حضن البحر تفتح صدرها للهواء هنيهة ثمّ تقفز جانبا كأنما لتشيرَ علينا بالعناق. لكنّا لم نسمع هتافاتها واكتفينا بالنّظر إليها تتكسّرُ وتتوزّع طفولتها على الرّمال.
أحاول أن أشرح دهشتي أمام كبريائك. قلت لك: “أنا لم أدربّ عينيّ على مشهد جسدك نافرا، لم أدرّب يديّ على ملامسة روائحك وأنت تمضين بعطور الأرض. أريد من الكلمات أن تجرح ذاكرتي التي رمّمت جوانبها بضحكاتك الشبقيّة وزيّنت سقوفها بأغصان شهواتك المتسلّقة وفتحت في ظلامها مسارب للضّوء والأسماء، أسمائك السّريّة التي أشير بها إلى سلالتي المغدورة، وإلى سقوط لاءاتي، حصني الشّاهر علوّه في وجه سؤالك.
لا بأس، أمنحك طاعة أشيائي وأمنحك فرصة أخرى لتعيدي اخضرار حكاياتنا وأمنحك ما كان بين أصابعنا من حزن وما كان بين خطواتنا من لهفة وما كان بين شفاهنا من كلمات وما كان بين رغباتنا من مسافة وما كان بين صدى صوتي وصوتك من ملح. أمنحك صباحاتي ذات الانتظار الشقيّ تلك التي لم أفلح في تركها للرّيح لكني سأظلّ في عزلتي أسيّج ما تبقّى من شجري اليابس بأمطاري الداخليّة وأزرع باحة وحدتي بأغنيات أختلسها من شتائي العالق بروحي كغابة منسيّة.
أحاول أن أشرح دهشتي أمام كبريائك. تذكّرت حين رفعت يدك اليسرى تاركة لحبّات الرّمل حرّية النّوم بين أصابعك، كيف أمضينا لقاءنا الأوّل ذاك الذي عدت منه كما يعود ملاك من مزار قدسيّ. يومها نامت أصابعك تلك في كفّي ورأت أحلاما روتها لي مرارا حتى كدت أصدّق أنّ الأصابع تحلم أيضا. لماذا إذن سحبت أصابعك من حلمها ووضعت مكانها هذه الارتعاشة الدّائمة في كفّي؟
أسمّي غيابك فاتحة لانهيار الحلم. أسمّيه ضياعي، وأشرع في الخوف من بياض أيّامي بعدك. كنّا أشركنا كلّ شيء في تواعدنا، احمرار الأفق المفاجئ، رنين الهواء المرتعد بلا سبب، صيحات الماء المنزوعة عن لونها قسرا، منظرا البيوت البعيدة حيث تركنا الوقت يستريح قليلا، خاتمك الفضييّ ذا الالتواءات المتناسقة، صوت البحر القلق، نظرات الشمس الأخيرة على متراحنا، باب المساء الذي فتحته الرّيح خطأ. كلّ شيء حولنا كان جاهزا لمشهدنا الأخير لكنّي لم أفسّر أيّة علامة، اكتفيت بالنّظر إليك وأنت تسحبين أحلامك من حضني وتبتعدين. كيف لم أصرخ لحظتها؟ بقيت حجرا مزروعا في الفراغ أتهجّد انصرافك وأبحث عن لفظة وحيدة تترجم دهشتي وتزيل عنك قناع كبريائك لكن بلا جدوى…
أعيد بناء المشهد. أعليه وأهدمه حتى يستقيم كما ترسّب في خيالي عصيّا على الظّهور بما كان.
لكن لن أقيم في فراقك، يلزمك ليل آخر أكثر مكرا لتبعدي صورتنا عن مكانها الطبيعيّ. يلزمك نفق سحريّ يبعدك عن طريقي ويخفيك عنّي. تلزمك أرض أخرى لتجرّبي فيها حبّا جديدا لا يرقى إليه الخوف. لذلك أبدو مطمئنّا في وحدتي أحاول رسم موقع قدميك على الرّمل اللامع في ذاكرتي.
لم تكن دهشتي علامة على سقوطي لا تخطئي في تقديم عزمي على الانتظار. لا تخطئي في تحويل صمتي إلى بكاء لم يسمعه غيرك. أنا لم أبك بعد. لم أترك لدموعي مسرّبا واحدا للمرور إلى عينيّ.
ربّما لمحت شيئا يشبه الدّمع في مقلتيّ. كان انعكاسا لغدرك لا غير. كان وهما.
كيف نعيد تذكّر مشهد فراق ولا يتسلّق وجداننا وحش النّدم؟ كان يمكن أن نتدارك، أن نفعل شيئا، أن نقول كلمات ترمّم ما تصدّع. أبحث في مزيج الأحاسيس التي أرصّع بها هذا الصّمت عن معنى وحيد لالتفاتتك القصيرة نحوي. كانت حدثا استثنائيّا في مخطّط هروبك من مداري ودخولك غابة الغياب الموحش. كنت تتقنين التردّد حتى في اللحظات الأكثر غموضا ودقة، لذلك حسبت أنّك ستعودين وأحضرت حضني كما كنت أفعل كل مرّة حين تهمّين بثورة على انقلاباتي الخاطفة وأحضرت كلاما في الاعتذار وسيّجت نظري فإذا أنت المدار الحقيقيّ لوقوفي ساهما. عبرتني روائح كثيرة كأنها نهضت معك وغادرتني وقفت مفزوعا حقنت المسافة بينها وبينك بصياح العاشق حتى أمنعها من اللّحاق بك. ها أنّها تهبني اليوم بعد أسابيع من رحيلك نفس الفتنة الأليفة هي كل ما لديّ من براهين على أنّك كنت معي. كذلك أحاول شرح دهشتي الأولى في الحبّ.
عدت وحيدا إلى بيتنا الذي ارتفعت ببارقه في وجهي. شاهدت دوائر سوداء تصعد من سقفه. لعله تنهّد ليخفف عني عبثية وجودي حذوه بلا وعود جديدة للقاء جديد معك. خطوات قليلة كانت تفصلني عنه لكنه بدا لي في القطب الشمالي… هل يمكن لي أن أصل إليه بشكلي ذاك. كنت هامة تدفعها خيبة لم يسبق لي أن جرّبتها. ودخلت البيت كما ندخل في غيبوبة مفاجئة وجلست على أريكتنا الحمراء ذات الفرو المرميّ على جنباتها كلحاف شتويّ. تذكرين تمدّدت فيها واسترسالك في التمسّح على طرفها الأيمن. كان صدرك يبدو كعشيرة من النداءات الفاحشة وكنت تعلمين أني أفتعل تجاهله لئلا أتعثر في رغباتي فأخطئ الوصول إلى مهبّ الغواية الذي أظلّ أكابده كسجين يهرب من زنزانته كلّ ليلة في الحلم. تذكرين انشغالك بملامسة كتفيّ بأصابع قدميك وارتعاش ربلتي ساقيك تلك الارتعاشة اللينة التي تخلّف في روحي صهيلا مركبا لا يوقفه إلَّا انغراس أناملي في أنهار الغناء الجارية بين جيدك وإبطك، خلاصة التدرّب على الموت سكرا برحيق لا مرئيّ يصيب منّي مصرعا. أعيد عليك للمرة اللانهائيّة موّالي بعرائك الباذخ فتتناثر من حولنا نجوم صغيرة بألوان منخطفة.
أرشدني غيابك إلى ذاتي. سمعت أصواتها للمرة الأولى حين اشتقت إلى صوتك واكتشفت أنّي لم أقم بيننا حوارا حقيقيا. كنت زاهدا في المعرفة وزاهدا في البحث عن طرق الوصول إلى أعماقي. كأنّ شيئا يلوّح لي من الخارج فأهفو إليه، كنت أنت أصل خوفي الفاتك. وهربت من وحدتي بشوقي الغريب إلى عزلتي المتأرجحة بين الأنين والغناء. يحقّ لي الآن أن أسرد حكايتنا كما نسجتها أنت بحنكة أسطورية.
لا شأن لحكايتنا بنا. نحن مجرّد طرفين خارجين عنها. أقحمتنا المشيئة رغما عنّا عبر فتحة صغيرة فيها فتوهّمنا أنّا بطلين متّحدان. كلّا لم نكن سوى ما نحن عليه الآن مجرّد حاشية لا تكاد ترى لفضاء لهيبيّ مترع بالغدر. انسكبنا خلسة إلى الأحداث. أنا من تجرّأ أوّلا على فتح خيوط الوهم.
سألتك:
– هل نحن معا؟
أجبت:
– كلَّا، كلانا يرى الآخر عبر كوّة في خياله.
قلت لك:
– أحبّ هذا الوضع فلا تبعدي نظرك عنّي.
قلت لي:
– ستفيق قريبا وينتهي كلّ شيء.
صرخت فيك:
– لا تذكّريني بالنّهاية. أعرف مذاقها.
كنت أكذب. يومها وددتُ أن أبدو متماسكا، واثقا من نفسي حتّى أغريك باتّباعي ونجحت. رأيتك تمسّكين بذراعي وتدخلين الحكاية معي، جنبا إلى جنب. قلت لي دون تردّد:
– هذه حكايتنا. علينا أن نحافظ عليها.
لم أجبك، لكنّك أردفت طلبا لردّ يسمعه انتشاؤك بي:
– ألسنا نمضي معا. حقيقتنا الوحيدة هي ما نحن عليه في خيالنا.
أجبتك:
– حكايتنا هي التي ستحافظ علينا فبدوننا لا تكون حكاية.
غمغمتُ كلمات وصمت. لكن ذراعي التي كنت تمسكين بها ارتبكت كما لم ترتبك من قبل فحدست أنك تخفين سرّا لا يلائم مشهدنا.
ذاك السرّ هو الذي أفسد علينا توحّدنا، واليوم بعد هذه الأسابيع الطّويلة من غيابك اكتشفت أنّك كنت تتعهّدين كبرياءك كلّ يوم حتى أضحى المحدّد الأرعن لخطواتك التي قادتك بعيدا عنّي. لا شكّ أنّنا لم نكن مهيّأيْن للغواية بما يكفي لنواصل الحبّ بدهشة الشّعراء.
كنت تقولين لي ويداك تعبثان بالهواء:
– كيف نصل إلى باب الملائكة؟
كنت أجيبك وأنا لا أعني ما أقول:
– لقد وصلنا بعد