من أول الألعاب التي تعلمتها هي اللعبة الورقية الشعبية والمعروفة باسم ” الشكبة “. البارع في لعبة الشكبة هو من يتقن “الحساب والتفصيل “. الحساب لمن لا يعرف يساعد اللاعب في معرفة الأوراق المتبقية عند الخصم، والأهم من ذلك دراسة كل السيناريوهات المتوفرة واختيار الأفضل منها.
لعب بسيطة وغير مكلفة علمتنا الكثير وطورت الذكاء عند الأطفال والشباب. وبما أن الذكاء أنواع ولا يقتصر على سرعة الحساب وقوة الذاكرة والمهارات التحليلية، اعترف من باب الإنصاف بأني تعلمت أيضا الذكاء العاطفي الذي أهداني القدرة على اكتشاف مشاعري عند الانتصار أو الهزيمة، والتحكم فيها احتراما لمشاعر الخصم .
انتابني اليوم شعور بأننا محتاجون لثقافة ” الحساب والتفصيل ” في إداراتنا ومؤسساتنا العمومية وحتى الخاصة منها. لسائل أن يسأل عن العلاقة بين ” الشكبة ” وحسابها وما يعانيه المواطن ليحصل على أي خدمة تخطر ببالكم. كل ما في الأمر هو شعور بالمرارة دعاني لتبسيط الأمور أكثر ما يمكن.
وأنا في طابور البلدية الطويل حيث تشعر بأن لا معنى للوقت هنالك، ولا معنى لكرامة الإنسان أو لأبسط حقوقه في معاملة محترمة تحميه كأضعف الإيمان من هذا الحر الشديد. كنت شارد الذهن بين الذكريات والمقارنات والأحلام وأعيد النظر في الرقم الذي أخذته من موظف البلدية حتى حفظته، وأتابع تقدم الأرقام ببطء شديد وممل سوى أرقام الحصول على المضامين التي كانت تمر بسرعة أكبر حتى تمنيت استخراج مضمون بلا حاجة له. ثم تبادر إلى ذهني سؤال من فئة السهل الممتنع. لماذا لا تقوم الإدارات بعمليات حساب وقيس بسيطة تتعرف من خلالها على معدل الوقت الذي يحتاجه المواطن للحصول على خدمة ما؟ ولماذا لا توجد أقسام لمراقبة أداء الموظفين وفاعلية الأنظمة وسرعة وجودة الخدمات؟ لماذا نفتقد لثقافة احترام الزبون أو الحريف ؟ لماذا لا توجد عمليات متابعة لتقييم مدى رضى المستفيد من الخدمة؟ عملية الحساب سهلة ولا تتطلب مجهودا كبيرا، وعملية التقييم ممكنة حتى بطرق بدائية. الحساب حتى بحبات حمص وإلا فول سيبين لكم بأن ما يحدث حاليا في إداراتنا هو عار علينا ولا يليق بالعصر الحديث!
النتائج المتوقعة لأي عملية تقييمية ستكون مخجلة لأن بعضها واضح بالعين المجردة إلا أن التأكد منها وتوثيقها والتدقيق فيها هو بداية الحل. يجب ألا نخجل من أمراضنا ونقائصنا وعجزنا أحيانا في الإصلاح أو الأكثر سوء وخطر هو تعودنا وتطبيعنا مع الرداءة. اكتشاف الخلل والتأكد منه بطريقة حسابية وعلمية يقودنا حتما الى الجزء الثاني الذي يتبع الحساب والمتمثل في دراسة السيناريوهات الممكنة واختيار أنجعها رحمة بالمواطن التونسي واحتراما له ولغيره من طالبي الخدمة أي كانت جنسياتهم. رأيت بنفسي وعشت معاناة الحصول على خدمة في إدارات وبلديات ومكاتب خدمات مختلفة من حيث نوعية النشاط أو مكانها الجغرافي. ومع اقتراب العودة المدرسية والجامعية سيتواصل الضغط خصوصا على البلديات وأجدر بنا استشراف المستقبل والعمل على إيجاد حلول سريعة تخفف من المعاناة اليومية للمواطن.
كتبت عن البلديات لأنها صادفت أن تكون آخر محطة لي مع إدارة تونسية، لكن الطوابير منتشرة في كل مكان رغم الوضع الوبائي. تبدأ مقاومتي للموجات السلبية كل صباح من أمام المحاكم ومكاتب البريد والاتصالات والقباضات المالية ومكاتب شركات الكهرباء والغاز والمياه وغيرها … ولن يفوتني التذكير بملف لي مفتوح منذ أعوام ولا يزال مع صندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية، لكن شكوى وتذمر أحد الوزراء السابقين من هذا الصندوق رمم معنوياتي.
وبما أني كنت كثيرا ما أستمع إلى من يشتكون قلة الاقتراح مقارنة بكم الانتقادات الهائل، هذا هو مقترحي ليس لحل المشكل فقط بل لإيجاد آلاف الوظائف الجديدة دون أعباء على ميزانية الدولة. كلما في الأمر، إعطاء تراخيص في كل بلدية طبقا لكراس شروط مدروسة من أجل فتح مكاتب خاصة تعاضد مجهود البلديات في تقديم كل الخدمات التي يحتاجها المستفيد مثل المضامين والتعريف بالإمضاء والحصول على نسخ مطابقة للأصل وأي خدمات أخرى ممكنة كاستخلاص الفواتير والخطايا وغيرها. قد تكون التجربة موجودة في تونس العاصمة بما يسمى مكاتب الخدمات السريعة والتي أصبحت أبعد ما يكون على السرعة رغم الفارق في تكلفة الخدمات. وبما أنها لاقت نجاحا لما لا تطويرها وتعميمها على أغلب البلديات نسبة وتناسب مع التعداد السكاني لكل منطقة بلدية.
التفكير في راحة المواطن والانسان عموما هي من شيم الدول والشعوب المتحضرة التي تحترم الإنسان وتسعى بكل ما في وسعها لإسعاده وتوفير أرقى الخدمات وأيسرها له. في انتظار بصيص من التحول الرقمي الذي لم يرى النور رغم حاجتنا الملحة والعاجلة والهامة له في هكذا وضع وبائي ، لا زلنا نحلم بالاستغناء على الدفاتر الورقية وبالتوقيع الالكتروني عن بعد بدل التواجد الفعلي على عين المكان من أجل التعريف بالإمضاء أو الحصول على أي خدمة، ولا زلنا نأمل في التخفيف من الوثائق المطلوبة لمؤسسات وإدارات الدولة التي كان من الأجدر تبادلها في ما بينها الكترونيا، أقل ما يمكن فعله حاليا فتح مكاتب جديدة تقدم خدمات لائقة بطالبها وتحفظ كرامته وصحته وتقدر وقته، وإعادة النظر في كثير من مقرات البلديات التي لا يتوفر فيها الحد الأدنى من المرافق لاستقبال المواطن في ظروف محترمة، وحتى نوفر ضمانات لذلك أصبح لزاما علينا وضع آليات لتقييم مدى رضى المستفيد من أي خدمة تقدم له مع ضرورة متابعة وتحليل البيانات الحاصل عليها، ومن ثم إتخاذ الإجراءات التصحيحية والتعديلية المناسبة.
نجاحنا الأخير في تلقيح أكثر من نصف مليون شخص في يوم واحد هو خير دليل وبرهان على قدرتنا إذا توفرت الإرادة وتوحدت الجهود في كسب كل الرهانات والتحديات المطروحة أمامنا.