رفض المحاسب استلام بعض القطع النقدية من فئة عشرين مليم. استغرب صديقي الأمر باعتبار أن القطع النقدية لا تزال متداولة بشكل رسمي. تدارك الوضع ودفع للمحاسب حسب ما يرضيه تفاديا لجدال عقيم. في هكذا مناسبات تندلع في ذهني وفكري حرب مقارنات سببها التجوال خارج تونس. واستحضر بالمناسبة مقولة أحد أساتذتي المتميزين في المرحلة الثانوية مفادها بأن المتقوقع جغرافيا لا يمكن له اكتشاف العديد من مواقع الخلل بسبب عدم قدرته على المقارنة. كيف سيقارن وما هي أسباب ذلك في حين أنه لم يرى شيئا مختلفا؟
عادت بي الذكريات للتسعينات من الزمن، وجغرافيا لأوروبا الشمالية، وتحديدا لمملكة السويد الفريدة والعجيبة. اكتشفت بأن لهم حصالات نقدية من مادة البلاستيك في شكل أنبوب اسطواني بسعة نقدية محددة ومعرفة. كل أنبوب قادر على استيعاب عدد من القطع النقدية المعدنية. بمجرد أنك تسلمه للمحاسب، لن يحتاج هذا الأخير لوقت حتى يعد القطع، وبسرعة يرمي بالانبوب البلاستيكي في درج المحاسبة ويعطيك آخر فارغ بديلا عنه لاستخدامه مستقبلا. بكل بساطة، تسلم أنبوب بلاستيكي به مبلغ مالي معلوم، وتستلم أنبوب فارغ. ولا يمكن أن تسمع مرة عبارات من قبيل “ما فيش صرف” أو يعطيك شيء بديل تعويض عن المبلغ المتبقي رغم بساطته. حقك هو حقك … وتستلمه على آخر سنت
استفقت من رحلتي وتجوالي في الماضي، وعدت للتفكير في قيمة الكثير من القطع النقدية المتداولة الى يومنا هذا متسائلا عن أهميتها اقتصاديا، وان كانت تساوي كمعدن قيمتها كعملة. وربما لهذا السبب حولها البعض او قد يحولها إلى تحف فنية وأساور؟ الى متى سيتواصل إصدار أو التعامل بقطع معدنية صارت بلا قيمة فعليا ؟
عدت لمملكة العجائب قبل عام (2019) وبعد أن استكملت نشاطي الرسمي، سألت صديقا عن فرع للصرافة المالية قريبا من الفندق ربما أحتاج لبعض المال أثناء استكشاف المدينة او أشتري ما يروق لي كهدايا تذكارية. أجابني باستغراب عن السبب لذلك حيث أني لن أحتاج لنقود ” كاش “. واصل الشرح مجيبا عن استفساري بأن استخدام النقود ” كاش ” صار ممنوعا في كامل البلاد. واصلت عنادي سائلا عن وظيفة آلات السحب والإيداع المالي الموجودة بكثرة؟ افادني بأن وظيفتها تقتصر على إيداع ما بقي من مال لدى المواطنين أثناء عودتهم من السفر وفي حدود سقف مالي محدد وإلا خضع الشخص للمسائلة. غنمت بجولة في المدينة واستمتعت بجمالها مع الأصدقاء، واستضافتنا صديقة على “ايس كريم” من كشك أنيق على الشاطىء وتابعت كيف أنها دفعت المبلغ ببطاقتها البنكية.
لعنة السفر والمقارنات تطاردني مجددا، ونحن نسعى سعيا حثيثا بالقول أكثر من الفعل لتحول رقمي، وندّعي محاربة الفساد، فلماذا لا نقلص من المعاملات المالية نقدا كأضعف الإيمان؟ ولماذا لا نسارع بتشريعات وآليات تمنع في بادئ الأمر كل الإدارات والمؤسسات العمومية وكبرى الشركات من التعامل نقدا؟
مثل هذه السياسات التي تمنع المعاملات نقدا نحن أولى بها من السويد لمحاربة الفساد
هل من مستمع ؟ هل من قارئ ؟ هل من مستجيب ؟