في اليوم العالمي للفلسفة..
الفيلسوف- الفنان
أم الفنان-الفيلسوف؟
د. فوزية ضيف الله
جامعة تونس المنار
لعلّ “الفنان-الفيلسوف” هي عبارة غامضة تتحدث عن كائن هجين. إمّا أن تكون فيلسوفا أو أن تكون فنانا، هكذا أرادت التقاليد الفلسفية لمّا حكمت إزاء علاقة الفلسفة بالفن. أم “الفنان-الفيلسوف”، فهي العبارت نفسها وقد انقلبت على نفسها تؤمن وجودا للفنان فبل وجود الفيلسوف، بل تقررأن المفهوم يولد بصريا وتشكيليا، أو ذوقيا حسيا، قبل أن يستوطن ملكة الفهم وتسميه اللغة الفلسفية مفهوما. وهذه العبارة تتحدث عن جدل معاصر، يخصّ الفن المفاهيمي خاصة والفن الزائل.
يعتبر “الفيلسوف-الفنان” كائنا هجينا، شخصيّة غريبة، ومع ذلك كان لهذه الشخصية أن تظهر. ذلك ما دعا إليه نيتشه لأول مرة. ولكن المفهوم لاحق على الموجود فعلا. ذلك ما يؤكده جون نوال فيانت (Jean-Noel Vuanet ) في مؤلفه (Le philosophe -artiste).
لقد كان الفيلسوف فنّانا قبل ظهور العبارة ولكن الفيلسوف تنكّر لوجهه الآخر خوفا على صورة الفيلسوف في المدينة. فكان أفلاطون شاعرا وفيلسوفا، لكنّه أطرد الشعراء والفنانين لأنهم لم يكونوا شعراء الوجود (بارمنيدس) بل كانوا شعراء المدينة (هوميروس). كان الفن خادما للساسة وللديمقراطية الغوغاء، فالشعر هو المساهم في تحريك الوجدان وسبب التحريض على اعدام سقراط استنادا لحكم الأغلبية.
إنّ المرور إلى فرض “العبارة الهجينة” مقارنة بالتقاليد الفلسفية هو نمط من فرض المنطوق على الموجود وتسمية الأنطولوجي بما لا يقبله اللوغوس. لذلك فإنّ التسمية في حدّ ذاتها هي “حرب بحالها” هي حرب ضدّ الأفلاطونية، انقلاب نيتشوي على الأفلاطونية. فيصبح الفن أرقى من الحقيقة نفسها “لنا الفن حتى لا تقتلنا الحقيقة”.
ولكن الفيلسوف الفنان هو الذي يُدرك ويعرف وهو في طور الابداع ويبدع وهو يعرف، فلا قطيعة عنده بين المعرفة والابداع. يجعل الفنان وجوده ملتزما ضمن الأثر، مثله مثل الفيلسوف نفسه.
يبيّن فيليب قروروس صاحب كتاب الفنان والفيلسوف (L’artiste et le philosophe) أن المعنى الوجوداني للعبارة يوجد داخل كلّ أثر مهما كان هذا الأثر فنيّا أو فلسفيّا: فقد تحاور القديس توما الاكويني مع جداريات Fra Angelico من خلال الجدل حول ما يعنيه التأمّل (contempler) وما يعنيه الاعلان (annoncer).
كذلك دخل ديدرو في تبادل مع لوحات جون أونوريه (Jean Honoré Fragonard) من جهة الدلالات الحيوية نفسها. وكان فريدريك شيلينغ محفّزا لموسيقى فرانز ليزت (Franz Liszt). واحتوت منحوتات ألبرتو جياكوميتي (Alberto Giacometti) نفس الذبذبات الوجودانية التي هزّت فينومينولوجيا هنري مالديناي (Henri Maldiney).
إنّ “الفيلسوف-الفنان” ملمح جسّده نيتشه، وكان هذا الملمح حلم فلاسفة آخرين. ينحدر الفلاسفة-الفنانون من طبقة الفلاسفة الماقبل-سقراطيين، فلاسفة مناقضون للأفلاطونية مثل نيتشه وأسلافه. ويعتبر المزج بين الفلسفة والفن هو مزج طريف وصعب ونادر، وهو مزج أسلوبي بالأساس.
يمارس الفيلسوف-الفنان الفنّ ككشف شعري للوجود ويمارس الفلسفة كفنّ للكُمون وللتعبير والثورة. فيطالب بتعدّد الحقائق، تعدّد القراءات، تعدّد السياقات وتعدّد المنظوريات. يُقاطع جغرافية الحدود الكانطية بين الملكات، ويخلق من الفكر جمالية أسلوبية ومن الفنّ فلسفة في نحت الفكر بأسلوب حيّ ونابض.
إنّ ربط الفلسفة بالفن، هو تحويل لوجهة الفكر من الحديث عن الموت وتأبين الغرائز إلى بعث الحياة في المادّة واستنطاق المسكوت عنه واعتماد الغرائز في بناء المعنى وتأويلية الفنّ والجسد والحياة.
عندما ترتبط الفلسفة بالفنّ، تتعدّد أصواتها، تتلوّن سياقاتها، تصبح معرفة مرحة، لم تُخلق لأجل الفكر بل لأجل الحياة المرحة والملوّنة. فتُصبح الفسفة مغامرة فنية مثل تجربة حياتية، مثل معالجة الألوان على لوحة تجريدية، دون سابق برمجة أو أو قصدية وتُصبح الحياة إذا اقترنت بفلسفة الفنان، وفن الفيلسوف “أثرا فنيا مفتوحا”.
ليس الفيلسوف الفنان جمعا بين شخصين، أو مهنتين، أو جمعا بين شخصيتين، وليس من السهل أن تجتمع الفلسفة والفن في شخصية واحدة، مثل جيوردانو برينو، كايكغارد، نيتشه أو هيدغر. ويتصدّر نيتشه طبعا هذه القائمة، وهؤلاء الفلاسفة الفنانون هم الذين يراهم نيتشه فلاسفة المستقبل. يقول نيتشه في الشذرة 42 من ما وراء الخير والشر: “أرى في الأفق صعود جنس من الفلاسفة الجدد سأجازف بأن أعمّدهم باسم لا يخلو من الخطر وبقدر ما أتمثلهم أو يسمحون لي بذلك لأن في طبيعتهم أن يبقوا ألغازا في بعض النقاط، فإن فلاسفة المستقبل لا يمكن أن يدعوا عن حق وربما أيضا عن باطل بالمجربين والاسم في حد ذاته ليس سوى تجريب أو اذا شئتم تجربة بمعنى إغراء” ويقول في شذرة أخرى ” المعرفة بالنسبة إليهم ابداع، ونتاجهم قوامه الاشتراع، وارادة حقيقتهم هي إرادة الاقتدار فهل في أيامنا مثل هؤلاء الفلاسفة ألا يجب أن يُولدوا يوما، فلا يمكن “للمجرّب” أن يكون فيلسوفا فنانا فالأمر يتعدّى سياق التجريب نحو سياق الإرادة المقتدرة ولذلك يقول في الفلسفة في العصر الاغريقي: ” الفيلسوف هو العارف بالابداع والمبدع في المعرفة” إن الفيلسوف الفنان هو حالة فيزيولوجية، والحالة الفيزيولوجية هي شرط أساسي حتى يكون الفن حركة مضادة للعدمية لذلك فإن الفن من جهة كونه قرارا من قرارات إرادة الاقتدار نفسها تتطلب القطع مع كل ماهو عدمي أو مناقض للحياة. فلا يتوافق إلا مع ارادة الاقتدار و لكي تكون ثمة حالة فيزيولوجية، لا بد أن تكون ثمة نشوة، والنشوة ارادة اقتدار متزايدة وماهو أساسي فيها هو الاحساس بالامتلاء ويقصد نيتشه بربط الفن الى الفيزيولوجيا التشديد على دور الحالة الجسدية في قيام العنصر الفني.
لقد كانت النشوة ضمن ولادة التراجيديا، القوة الفنية الديونوزيسية المتعلقة بفن الموسيقى وتقابلها القوة الفنية الأبولونية المتعلقة بفن النحت، فماهو ديونيزوسي وماهو أبولوني يمثلان قوتين طبيعيتين يرجع إليها التطور المطرد للفن، إذ أنه من شأن الاتحاد بين القوتين، بين الحلم والنشوة، أن يخلق أثرا فنيا متميزا هو التراجيديا الاغريقية.
يكزن الديونيزوسي فاهما مدركا لكل اليحاءات حتى لو كانت ايحاءات انفعالية، فهو يمتلك غريزة ادراكية، نبوئية وفنية في علاقته بالعالم وبالآخرين. يتحد ديونيزوس مع أبولون، باسم الفن، هما يرعيان الفن، رغم التناقض والصراع بينهما، ورغم دائرة النزاع المفتوح. وعندما تتحد هاتين الغريزتين، يحسّ كل انسان أنه حر ومتحدّ مع نظيره الانسان، ويصبح الفنان الفيلسوف، هذا الشخص الهجين، خلاقا ومبدعا، ينشئ فنا باقتدار الارادة وبراءة الطفل وديمومة الصيرورة انشاء يراوح بين المرح والتجدّد.
إن مفهوم الفيلسوف الفنان هو متعلق استيتيقي يؤسسه نيتشه خارج أسوار الفلسفة الغربية، يقترحه كحلّ جذري لانقاذ الحضارة من الانحطاط الذي تسبب فيه سقراط. فالفيلسوف الفنان هو نفسه الجينيالوجي، وهو طبيب الحضارة الذي يطبب عصور الانحطاط. لذلك كان لزاما عليه أن يعلن عن هذا المشروع ضمن كتابه “كتاب الفيلسوف” مستعملا عبارات تحدد مهمة الفيلسوف الفنان، فهو الفيلسوف القادم، هو الفيلسوف المستقبلي.
يتولدّ الفيلسوف الفنان ضمن زخم الحياة، ضمن تراكم التأويلات المقترحة للمعرفة المرحة، وللحياة المقتدرة، وللجسد الناظم للفهم، وللتعبير وللتأويل. هو فيلسوف خالق للقيم، للابداع، للمعرفة، هو فيلسوف المستقبل، المشرّع لقيم الرادة، خالق لامكانات جديدة للحياة، أسلوب جديد في الحياة. فيقول نيتشه: “إن الفلاسفة الحقيقيين هو أولئك الذين يقودون ويُشرّعون، أولئك الذين قضوا على الماضي يمدّون في اتجاه المستقبل أيادي خلاّقة فالمعرفة بالنسبة اليهم خلق وعملهم تشريع وإرادة الحقيقة لديهم إرادة اقتدار”.
يتمرّد الفيلسوف الفنان على كل أشكال القمع، يُؤسس مقاومة الحياة، يهدم القيم القطيعية، ليس للمبدع الا رفاقل مبدعين مثله فزرادشت يطلب رفاقا غير أن الرفاق لابد أن يكونوا مبدعين لا جثثا يتبعون القطيع. يقول زرادشت:” إليّ بالرفاق، إني أطلبهم مبدعين ولا أطالبهم جثثا وقطعانا أو مؤمنين”. إنّ المبدع لا يُمكن أن يكون له رفاق غير مبدعين، إنهم يحفرون سننا جديدة على ألواح جديدة، لكن المبدع يظل محلّ خوف السلطة، بل الجميع لأنه يُحطّم الوصايا القديمة، فلذلك تستدعي ولادته كثيرا من الألم. يقول: “أيها المبدعون ستكون حياتكم مليئة بمرار الميتات، لتُصبحوا مدافعين على جميع ما يزول، على المبدع إذا شاء أن يكون هو نفسه، طفل الولادة الجديدة، أن يذرّع بعزم المرأة التي تلد فيتحمّل أوجاع مخاضها”.
يكون الفيلسوف الفنان مُرغما على خلق عالم مختلف مغاير للموجود، يُطلق العنان للخيال وللجنون والمغامرة لأجل أن يحتفي بالحياة فهي القيمة الحقيقية الوحيدة في نظر نيتشه، يقول “نعم” للحياة وفق عود أبديّ دائم.
إن الفيلسوف الفنان، هو فنان وفيلسوف في الآن نفسه. غير أن المرور من الفلسفة الى الفن أو من الفن إلى الفيلسوف هو مرور يقتضي تبين الصورة الظاهرة أكثر، أو الصفة الأولى التي تجلت على الفيلسوف أو على الفنان. ليس كل الفلاسفة فنانين، ولا كل الفنانين فلاسفة، ولكن لا بد من الاشارة الى أن الفن هو خلق تجريبي للمفهوم على فضاء اللوحة أو المعزوفة أو على خشبة المسرح أو أمام الكاميرا. في حين تأتي الفلسفة، لتعطي على تلك التجربة الحية، مفهوما جامدا، وهذا أمر غير محمود لأنه يفصل المفهوم عن حياته المتدفقة. أما اذا كان الفنان فيلسوفا، والفيلسوف فنانا فإن الخلق الفني سيمون هو نفسه خلقا للمفهوم على أديم أرض متحركة، على جهة المغامرة الشيقة والمرحة.
لابدّ من مراجعة انشائية الخلق الفلسفي، لكونها على علاقة حميمة بالخلق الفني، فهما عملية عضوية، يوجهها جسد متذوق للحياة، وفكر عائم في مغامرة متجددة.