الكتابات المونوغرافية في الفنون: تأرْجُح بين تَعسّرِ المقامِ ولزُوم القِيامِ
بقلم د.فوزية ضيف الله
ان شلوسار صاحب أعرق كتاب حول “كتابة الفنون” يُبوّب ويُحصي أجناس الكتابة حول الفن لكنه لا يضع الكتابات الشخصية أو البيوغرافية محلّ صدارة. و يدافع عن ضرورة العودة إلى كتابات العصر الكلاسيكي التي تضمنت كما هائلا من المرجعيات لم تستعمل بشكل جيّد، وظلت العودة اليها متقطّعة أو ظرفية.
لا يُعوّل شلوسار على نصوص هوميروس (Homère) وهيزيودوس (Hésiode) أو فيرجيل (Virgile) لأنها تظهر في شكل نمطي، ولا تنفتح على أدب فني متميّز. فالكتابة الحقيقية حول الفن، في نظر شلوسار هي التي تنشأ بعديا، تُولد بعد مرور الفنانين وبعد تواتر عملية الآثار الفنية. ذلك ما يُسميه “الوصف المضموم” (ekphrasis et encomiun )، ويتميز بعدم الاسهاب في المواضيع الجزئية أو الظرفية، ويكون همّه الأساسي ضمّ كل النشاط المُشتّت ووضعه تحت مُسمّى الفنّ وفق نمطين من المناهج: المنهج الدياكروني (diachronique) والمنهج الترحّلي (périégétique).
ورغم جملة التحديدات التي وضّحها شلوسار عندما أحصى ورتّب تيبولوجيا متنوعة منها، كتابات الفنانين، الكتب التقنية، البيبليوغرافيا، والأوتوبيوغرافيا، المراسلات، الأرشيفات الإدارية الخطابات الشفوية لأكاديميات الرسم والنحت. فإنّ مقام الكتابة المونوغرافية ظل مبهما، متعسّرا. والمونوغرافية هي كتابة تدرس السيرة الذاتية للفنان الواحد من خلال حياته، ما يُعرف وما يُروى عنه، معارضه وتجاربه وجملة الوثائق المنشورة، شهادات معاصريه، زملائه أو تلامذته وأقرباؤه. تأخذ المونوغرافيا شكلا يراوح بين الوصف والتتبع الدقيقين، ولكنها تتجاوز الذاتي والجزئي لإرساء رؤية متكاملة وعلمية.
فأي مقام هذا الذي تتأرجح فيه المونوغرافيا بين تعسّرها ولزومها، خاصة أمام وطأة الانتقادات الموجهة لها؟
1-في المقام الغامض والمتعسّر للكتابة المونوغرافية:
إنّ توبولوجيا الكتابة المتعلّقة بتاريخ الفنّ المعاصر تكشف عن أجناس متباينة ومختلفة. تبدأ بالبيوغرافيا، الكاتالوغ التابع لمتحف أو معرض، المحاولة، تصدير الأثر، تقديم لمعرض في رواق خاص أو عامّ، عدد خاصّ لمجلة مختصّة والتوثيق الفني والأرشيف. لم تكن كل هذه العناصر محل دراسة تاريخية. وفي نظر جيوفاني أغوستي ربما تقلّصت المونوغرافيا في تاريخ الفنّ خلال فترة ما بعد الثمانينات، عندما تمّ الاستغناء عن الكتابة وفق ما يُسمّى بثنائية الحياة والأثر، مع ما يمكن أن يُضاف من وثائق تخصّ الشخصية الفنية للفنان. ولذلك اكتسى هذا النوع من الكتابة مقاما غامضا، رغم الاقبال المتزايد عليه لدى مُتلقّيه.
لقد كانت الكتابة المونوغرافية جنس الكتابة المفضّل في تاريخ الفن طيلة عقود طويلة. إنّ أكبر الرفوف الموثقة أرشيفيا، هي الرفوف المونوغرافية التي تتوافق مع اختيارات القارئ. وقد كان الباحث-المؤول يُخصّص أسبقية للبحث المونوغرافي كما يتجلّى في المنزلة التي تُوليها له مكتبات تاريخ الفن والمكتبات المختصة.
2-المونوغرافيا، هل هي أصل التأريخ للفن الغربي أم هي وهم مونوغرافي؟
تعتبر مونوغرافيا الكتابة الفنية، أصل قيام تاريخ الفن الغربي، مع فاساري (Vasari)، تأخذ شكل البيوغرافيا وتُوثّقها بكاتالوغ يضمّ أعمال الفنان، وقد شكّلت منذ زمن بعيد مرجعا هامّا ضمن الكتابات الأكاديمية المتعلّقة بتاريخ الفن. تكون في عمقها قريبة من “المحاولات” (Essais)، سلسة ومرنة، عذبة ومرنة، ولكنّها رغم ساحريتها وشعريتها فهي تظل توثيقية بحق.
لقد تطوّر هذا النمط من الكتابة بعد نقد مفهوم “المؤلف” خلال السبعينات، والمرور الى نظرية “موت الاله مع رولان بارط، بعد ظهور كلمة “موت الاله مع نيتشه. وفي الأثناء تحدّث بيار بورديه، ضمن مقاربة سوسيولوجية عن عثرات المونوغرافيا واعتبرها “وهما مونوغرافيا” ووصفها جون كوبانس (Jean Copans) بأنها “رؤية تراكمية تجميعية ومُستقرّة، تأخذ شكل التقديم والعرض.
3-المونوغرافيا تفتح قدرا كبيرا من التساؤلات:
بيد أنّ كل أشكال النقد التي قامت ضد الكتابة المونوغرافية لم تمنع المؤرخين الكبار في تاريخ الفن من مواصلة اعتمادها. مثلا Jacques le Golf، أحد المؤرخين التابعين لمدرسة (Annales) . كان قد كتب مونوغرافيا حول “saint Louis” في 1995. وهو لم يكن يبحث عمّن يكون ولا عن وجهه الحقيقي ولكن الغاية كانت إرادة في بناء حقبة كاملة. فصورة الفنّان تعكس تفاعلاته مع المحيط ومع المجتمع. ومن جهته، فإنّ Roberto Longhi يُبيّن أن الكتابة المونوغرافية تفتح قدرا كبيرا من التساؤلات العميقة حتى أن شارك فيها فنانون غير معروفين، أو دون ذكر هويتهم (Anonymes). بل إن عدم ذكر الاسم لا يُمكن أن يمنع تواصل الكتابة المونوغرافية.
تتناول الكتابة المونوغرافية، تفاصيل دقيقة، لا يصل إليها الجميع بل هي الكفيلة أحيانا بشرح ما لا يُفهم في مسيرة الفنان. مثل مواقع إنجاز اللوحات، بمن تأثر الفنان؟ في من أثّر؟ مع من تواصل؟ من هم أصدقاؤه؟ ماهي الأعمال التي قام بها تحت الطلب؟ لمن كان يهدي بعض أعماله؟ ماهي الأعمال التي ارتبطت بأحداث تخصّ الفنان وتخص تجربته المعاشة.
في إحدى نصوصه حول الرسام Cy twombly تساءل رولان بارط عن دور الشارح للأثر وقال أن ذلك يُحرّك فينا “عمل اللغة” الذي يتحقّق في مواقع عدة وفي مستويات مختلفة مع التزامه المسؤول بأن يكون موضوعيا، فعبيه أن يُوضّح تحليلاته، أن يقيس درجة حدّة الألفاظ المستعملة ويدْرسَ مدى سلطتها على المتلقّي، وذلك ينطبق على الكلام المكتوب والكلام المنطوق على حدّ السواء.
لذلك يتولّى من يكتب حول الفنان وأثره، التحكّم في توجيه اختياراته، دون أن يتراجع عن مهمّته العقلانية الأولى تساوقا مُتجاوبا مع مهمّته التعبيرية الثانية، التي تُفصح عن ذاتيّته التأويلية. ولذلك شدّدت المؤرخة في تاريخ الفن المعاصر (Lydie Rekow-Fond) -صاحبة المؤلف المونوغرافي الصادر سنة 2012 “بول أرنو جات، شغف الحدود”- على ضرورة تعميق المفهمة الخاصّة بعبارة “الباحث-المؤوّل” حتى نتمكّن من فهم عمله وتقدير جهده في قراءة العمل الفني وتحديد معالم التحليل التقني والتركيبي، دراسة منطق التركيب، واستغلال الفضاء، وصولا إلى الدلالات التأويلية.
4-المونوغرافيا، عودة التجربة المعاشة على جهة التذكر الصادق والتوثيق الحقيقي والشواهد النابضة
إنّ الكتابة عن الأثر الفني وعن صاحبه، كتابة مونوغرافية، هي “فكر يُعاش” ويُعَاود الاحساس بعيشه للمرة الثانية بعد الفنان نفسه. وفي السياق نفسه، يذكر (Otto Pächt) في كتابه “أسئلة المنهج في تاريخ الفن” (1994) ما يلي .” كلّ تأويل لأثر بصريّ يبدأ عبر النظر (Le regard) ولكن أن نرى هو أيضا أن نفكّر و أن نحكم، فلا وجود البتة لوصف وقائعي محض (…) فإذا كان النظر شرطا للوصف، فإنّ الوصف يساعد في المقابل على رؤية أفضل”.
إنّ كل ما يقوله الفنانون أثناء تدشين معارضهم، أثناء الحديث عن أعمالهم وتجاربهم، وكل ما يكتبونه هي مفاعيل تُوجّه الدراسة والنظر الوصفي ثم التحليلي. أوّل الأمر، تتشكّل صحبة الأثر الفني، عناصر المدوّنة التي ينطلق منها القارئ-المؤول أو الباحث-المؤوّل، ثم يبني عليها ما يتلوه من عمل على اللغة وقراءة للعمل معا. وبهذه الطريقة، قدّمت Lydie Rekow-Fond المونوغرافيا الخاصة بالفنان البريطاني Roger Acking 1947-2014). فقد انطلقت مقاربتها من خلال تأمّل الأعمال الفنية، زيارة معارضه، قراءة كتاباته غير المنشورة، اكتشاف ما تركه بعد وفاته في ورشته والتنقيب في أرشيفه. لقد التزمت بمسار تذكّري لكل اللقاءات التي كانت لها معه، ما بين 1994 و2014، من خلال المعارض التي شاركوا فيها سويّا ومن خلال الرحلات المشتركة والتبادلات غير الرسمية بين الأصدقاء. شكّل كل ذلك جسرا للعبور نحو عالمه الخفيّ.
ورغم ذلك فإن الكتابة بعد القرب تتوجّب مسافة، تمكّن من استجلاء موقع محميّ لتكون المونوغرافيا “موضوعانية وذاتية في آن. إنّ مساءلة الأثر الفني تنبثق من خلال مساءلة مقتطفات المعرفة التي يقترحها، وتنبجس من خلال تداخل الدراسات، المعارف، الحدوسات والانفعالات. فيخلق في المقابل تجربة مختلفة يدعو من خلالها الآخرين إلى متابعتها ومحاولة عيشها ولو على جهة المجاز (John Dewey).
هل الكتابة المونوغرافية هي التزام مخصوص، أم هي مقترحات يُقدّمها عمل فني ما؟
فكيف يمكن للكتابة المونوغرافية المتعلّقة بالأعمال الفنية، من جهة كونها نمطا مؤسسا لتاريخ الفن أن تتأقلم مع انفلاتات وانفجارات مفهوم “الأثر” وأن تُقاوم أزمة مفهوم “المؤلف”؟
د.فوزية ضيف الله