جاك دريدا
المتاهة الدائرية: “وهم المعنى وهمّ الكتابة”
“وهو على فراش الموت وقبل أسابيع قليلة من رحيله في خريف 2004، أبدى داريدا قلقا من استعصاء تقديم فهمٍ سليم وقويم لأعماله وكأنها ألغاز مستعصية عن الحلّ، فماذا أراد قوله، ما فحوى مصنفاته ومضامين خطاباته ودلالات مصطلحاته العسيرة والغفيرة؟ قد يبدو الهدف عزيزا بعيد المنال حاليا! فهل هو عجز تفسيري وتأويلي من قبل شُـرّاح دريدا؟ هل انكباب مئات الدارسين على الفكر التفكيكي وإقبالهم على حلقات دريدا في شتى أصقاع العالم لم يأت بنتيجة أو محصول؟” (محمّد البكايّ، “جاك دريدا وَهْمُ الـمعنى وَهَمُّ الكتابة”، جاك دريدا، فيلسوف الهوامش، إشراف وتحرير، محمد البكاي، التقديم ، بيروت، دار ضفاف والاختلاف، 2017)
تمهيد:
عُرِف اسم جاك دريدا “منظّر التفكيك” في فرنسا سنة 1967، عند صدور مؤلّفاته الـمهمّة (“الغراماتولوجيا” و”الكتابة والاختلاف” و”الصّوت والظاهرة“)، ومع حلول السبعينات صار نجما لامعا في أمريكا، فصار أستاذا زائراً في جامعات نيويورك وكاليفورنيا. غير أنّ المثقفين الفرنسيين وأبدوا استياء منه وقاطعوه، انطلاقا من كونه أحد أهمّ ممثلي “فكر 68”. ومثّلت مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية ملجأ له، بعد أن أغلقت الجامعات الراقية أبوابها في وجهه
أشرف على تحرير هذا الكتاب وتقديمه محمّد بكاي، وهو كاتب وأكاديمي جزائري (المركز الجامعي بمغنية)، من مواليد الشمال الغربي في الجزائر (تلمسان) سنة 1986، تتأرجح اهتماماته بين اللسانيات، والفلسفة، والنقد الأدبي. تعمّق في مجال الحقل التداولي ونظريات التواصل، بين اللغويات، والفلسفة، والسوسيولوجيا، والتأويلات الثقافية، ليتفرغ لمجال التصورات ما بعد الحداثية في الفكر والإنسانيات، وتوّجت بحصوله على دكتوراه علوم في التخصص ذاته، بإنجاز رسالة جامعية انصبّ بحثه فيها على (مقاصد الـمؤلف وإستراتيجيات الـمؤول في تحليل الخطاب الشّعري). صدر له مؤخرا عن دار الرافدين و(OPUS)، مؤلف تحت عنوان أرخبيلات ما بعد الحداثة. وقد شارك في هذا المؤلف الجماعي 21 باحثا وباحثة من بلدان عربية مختلفة. ربما التقى هؤلاء الباحثين دريدا في الفكر أو في الواقع، فكانوا أصدقاءه فعلا أو أصدقاءه فكرا أو مغرومين وشغوفين بفلسفته تفكيكا ونقدا.
يصدر الانشغال بدريدا ضمن هذا المؤلف الجماعي انطلاقا من اهتمام الدكتور محمد البكاي بالتفكيك إلى جانب مجموعة من أصدقاء الفيلسوف أو من المترجمين له والباحثين في فلسفته. هؤلاء الباحثين ربما التقوا دريدا في الفكر أو في الواقع، فكانوا أصدقاءه فعلا أو أصدقاءه فكرا أو مغرومين وشغوفين بفلسفته تفكيكا ونقدا. يكتب د.محمد البكاي في تقديمه للكتاب قائلا: “(…) من مسقط رأس دريدا، من الـجزائر وعبر صفحات هذا الكتاب، نسعى لخطّ نوستالجيا (Nost-Alger) أو شكل من أشكال العرفان بالجميل وترجمة ذلك الشّغف والاهتمام التفكيكي وعرض أفكاره ذهابا وإيابا من خلفيات متنوعة لشمل من المتخصصين يجمعهم خيط التفكيك. عبر هذه الورشة الكتابية نطوّر أسئلتنا القرائية لاستقبال التفكيك في مواطنه الأولية ودلالاته الفلسفية والأدبية والسياسية: فكيف السبيل إلى متابعة فتنة التفكيك؟ ما هي الخبرة الفلسفية والدروس المستنتجة من تعاليم دريدا؟”
تضمن الكتاب أعمالا متنوعة احتفت بدريدا من جميع جوانبه، وقد احتوى الكتاب بحوثا متميزة لأكادميين وباحثين من دول عديدة وكذلك ترجمات لبعض المقالات التي كتبت عنه، ولبعض الفصول التي كتبها الفيلسوف نفسه. وقد ساهم في هذا المؤلف باحثون متميزون، مختصون في فلسفة دريدا على غرار الرّاحل محمد البنكي من البحرين (1963-2010)، الذي أهدي إليه الكتاب تخليدا لذكراه، وجاء بحثه موسوما بالعنوان التالي “ما بعد حياة التخريبة” وهو البحث الذي استهل به الكتاب بعد التقديم الأوليّ الذي وضعه المشرف على الكتاب الدكتور محمّد بكاي (الجزائر) ووسمه بـــ” جاك دريدا وَهْمُ الـمعنى وَهَمُّ الكتابة “. كما ساهم في هذا الكتاب الدكتور محمّد شوقي الزين من الجزائر ببحث حول ” دريدا الباروكي: رؤية الانعطاف الدريدي داخل النص الفلسفي الغربي”. وشارك الدكتور رسول محمد رسول (العراق/الإمارات العربية) ببحث اهتمّ فيه بــ” نقد العلامة في فلسفة جاك دريدا: من هيمنة الدال الميتافيزيقية إلى فضاء الدلالات الـمنفرجة.”
ساهم المشرف على الكتاب (د.محمد بكاي) تناول فيه “التفكيك والمعنى بين الرؤية الفاحصة والقراءة الفاضحة”، تناولت الباحثة مديحة الدبابي (الجزائر) مشكل “الكتابة وتفكيك البنية الأنطوـ تيوـ لوجية لنسق الفكر الغربي”، وبحثت ميجان الرويلي في« “وحي النحوية” أو “هبة الـموت” الـممنوعة من الصرف»، خالد حسين، “سـرُّ الأدب: النصية بما هي اختلاف وإرجاء”، كاظم جهاد، “تفكيك السّياسة، أو دريدا مفكِّراً في الشأن العامّ”، خلدون النبواني، “دريدا والسياسة: التحول العمليّ في تفكيكية دريدا”، مراد الخطيبي، عبد “الكبير الخطيبي وجاك دريدا أو الخيوط الناعمة بين الصّداقة الإنسانية والصّداقة الفكرية”، صفاء فتحي، “مكتوب .com”، جلال البدله، “معضلة الوعد: نحو فهمٍ جديد للعلاقة بين التفكيكية ونظرية أفعال الكلام”، جهاد شارف، “فـرماكون التـرجـمـة أو سرديـات الإمـكـان”.
أمّا الفصول المترجمة من المتن الدريدي فهي التالية:
“عن الإعجاب بنلسون مانديلا أو قوانين التفكير والانعكاس” (ترجمة عز الدين الخطابي)، “استبصارت دريدا عن العمى والعميان “(ترجمة محمد عيد إبراهيم)، ” أجل الكتاب وبداية الكتابة” ( ترجمة منذر العياشي)، “نـهايات الإنسان” (ترجمة منى طلبة).
كما تضمن الكتاب ترجمة لبعض المقالات التي كتبت حول داريدا في لغة غير العربية من بينها مقال ليونارد جاكسون، “الـميتافيزيقا النصية وأساطير دريدا الـمناهضة للأسس: من تفكيك علم الظاهرات إلى “نقد جديد”(ترجمه إلى العربية، ثائر ديب)، ومقال لــ دريديك أتريدج، “معنى أن تتبع جاك دريدا ، (ترجمه إلى العربية سمير مندي)، واختار د محمد البكاي ان يختم الكتاب بترجمة لمقال الدكتور محمد شوقي الزين (” دريدا الباروكي: رؤية الانعطاف الدريدي داخل النص الفلسفي الغربي”) قام بها سعيد بوخليط.
1-دريدا فيلسوف التفكيك:
لقد تحدّث دريدا باطّراد عن صعوبة تحديد معنى “التفكيك” خاصّة ضمن القسم الأوّل من مؤلّفه الكتابة والاختلاف. حيث يكتب: “حتّى أكون شديد التخطيطيّة، سأقول إنّ صعوبة تحديد مفردة التفكيك، وبالتالي ترجمتها، إنّما تنبع من كون جميع المحمولات وجميع المفهومات التحديديّة وجميع الدّلالات المعجميّة، وحتّى التمفصلات النحويّة التي تبدو في لحظة معيّنة وهي تمنح نفسها لهذا التحديد وهذه الترجمة، خاضعة هي الأخرى للتفكيك وقابلة له، مباشرة أو مداورة، (…) وهذا يصحّ على كلمة “التفكيك” وعلى وحدتها، مثلما على كلّ كلمة” [1]. لذلك فإنّ التفكيك بالنسبة إلى داريدا هو “لا شيء” لأنّ الذي لا يكونه التفكيك هو “كلّ شيء” . لا يرى داريدا أنّ التفكيك في هذا السياق هو مفردة من “المفردات الجميلة” رغم إسدائها بعض الخدمات ، وذلك راجع إلى عدم كفايتها جوهريّا، فلا تستمدّ قيمتها إلاّ من خلال اندراجها ضمن “سلسلة البدائل الممكنة”، التي تسمّى عادة “سياقا”. يقول داريدا: “(…) لا تتمتّع هذه المفردة بقيمة إلاّ في سياق معيّن تحلّ فيه محلّ كلمات أخرى أو تسمح لكلمات أخرى بأن تحدّدها: الكتابة، الأثر، الاختلاف، الزيادة، الهامش، الإطار…”[2].
يتحدّث داريدا عن أسباب وظروف اختياره لمفردة التفكيك قائلا:” إنّني عندما اخترت هذه المفردة، أو عندما فرضت نفسها عليّ (…) ما كنت لأتوقّع أنّها سيُعترف لها بدور هو يمثّل هذه المركزيّة في الخطاب الذي كان يهمّني يومها. كنت، بين أشياء أخرى، راغبا بأن أترجم وأكيّف لمقالي المفردة الهادغرية (Destraktion)أو (Abbau). كانت الاثنتان تدلاّن في هذا السّياق على عمليّة تمارس على “البنية” أو “المعمار” التقليدي للمفهومات المؤسسة للأنطولوجيا أو الميتافيزيقا الغربيّة” [3]. ويذكر داريدا أنّ (destruction) تدلّ في الفرنسية على الهدم وعلى الاختزال السلبي وقد تكون أقرب إلى (démolition) النيتشوية.
2- في أصول التفكيك:
“التفكيك” أو “التفكيكيّة” هي ترجمة عربيّة للعبارة الفرنسيّة “déconstruction”. وهو مدرسة تابعة للفلسفة المعاصرة، وهو كذلك ممارسة تُطبّق على تحليل النصوص وتفكيكها. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا المنهج التفكيكيّ يمارس على مختلف النصوص، أدبية كانت أو فلسفيّة أو حتّى صحفيّة، لأجل توضيح ماهو غامض وتفصيل ماهو مجمل. لذلك كان مفهوم التفكيك مرتبطا بفنّ قراءة النصوص وتحليلها، وكان مفهوما مشتركا بين الفلسفة والأدب على حدّ السواء. فإذا كانت عبارة “déconstruction” قد ظهرت لأوّل مرّة مع هيدغر، فإنّ الأثر الدّاريدي هو الذي حوّله إلى مفهوم نسقيّ (systématique) ونظّر لطرق ممارسته.
ظهرت عبارة “déconstruction” منذ 1955 ضمن سياق الفلسفة الفرنسية في محاولة لترجمة نصّ لهيدغر عنوانه (Zur Seinsfrage)، والذي يترجم إلى الفرنسية عادة بـ (Contributions à la question de l’être)، وفي العربيّة بـ (إسهامات في سؤال الوجود). وقد اختار المترجم جيرار غرانال (Gérard Granel) هذا المفهوم لترجمة العبارة الألمانية “Abbau” التي تعني “الهدم”، وقد كان يريد تمييزها عن كلمة “destruction” التي يقابلها في الألمانية “Zerstörung“. تُترجم “déconstruction”كذلك بالتقويضية كإشارة إلى عبارة “destruction” الهيدغرية، ويعني بها هدم كلّ الايديولوجيات التي تخادع ذاتها ضرورة فتتصوّر أنّها تفلت من تاريخ التاريخانيّة النسبيّة ومن قبضة الصّيرورة.
3-التفكيك عند هيدغر:
لقد أفصح هيدغر عن “التقويض” أو “التفكيك” (déconstruction) في نهاية مقدّمة الوجود والزمان (الفقرة الثامنة). يبدو أنّ مسألة التفكيك تمثّل القسم الثاني لبلورة مسألة الكينونة فيكتب هيدغر أنّ القسم الثاني –الذي لم ير النور-، والمعنون “في الملامح الأساسيّة لتفكيك فينومينولوجي لتاريخ الأنطولوجيا تحت هدي إشكاليّة الدّهريّة”، يتفرّع إلى ثلاثة فروع:” 1- تعاليم كانط في التخطيطيّة وفي الزمان بوصفهما طوا سابقا من إشكاليّة الدّهريّة. 2-الأساس الأنطولوجي للـ “Cogito sum” الدّيكارتي واستعادة الأنطولوجيا الوسيطة ضمن إشكاليّة “res cogitans”. 3-مصنّف أرسطو في الزّمان بوصفه مقياسا مميّزا للأرضيّة الفينومانيّة للأنطولوجيا القديمة وحدودها”[4] .
كما نقرأ حديثا لهيدغر عن “التفكيك” ضمن الفقرة السادسة من مقدّمة الوجود والزمان، المعنونة “في مهمّة تفكيك تاريخ الأنطولوجيا”. وتجدر الإشارة في هذا السّياق إلى أنّ الترجمة الفرنسيّة التي يقترحها فرنسوا فيزان للعبارة الألمانيّة “Destruktion” هي “désobstruction” ويتعيّن التفكيك كمهمّة ضروريّة للنظر في التاريخ الخاصّ للكينونة ضمن شفافيّة تفكّ الحجب التي تراكمت بفعل الزمن، وفي هذا السياق يكتب هيدغر: “إذا كان ينبغي بالنسبة إلى مسألة الكينونة ذاتها أن يُظفر بالشفافيّة التي من شأن تاريخها الخاصّ، فإنّ ذلك يقتضي تلطيف التراث الذي تحجّر وفكّ الحجب التي تراكمت مع الزمن بسببه. نحن نفهم هذه المهمّة بوصفها تفكيكا، يتمّ تحت هدي مسألة الكينونة، للرصيد الموروث من الأنطولوجيا القديمة وذلك بالاستناد إلى التجارب الأصليّة التي وقع الظفر ضمنها بالتعيينات الأولى للكينونة والتي ظلّت هادية منذئذ”[5].
نتبيّن من خلال ما أوردناه أنّ هيدغر ينبّه إلى أنّ كلّ مسألة فلسفيّة مهما كانت واضحة فإنّها تخفي بين طيّتها تراكما للمفاهيم الموروثة، التي تحجب الرؤية وتجعل مسألة الوجود في حاجة أكيدة إلى ممارسة مهمّة تفكيك تاريخ الأنطولوجيا. وبما أنّ هذه “المفاهيم الموروثة” لا تصدر صدورا أصليّا عن الأنطولوجيا نفسها، ولا تعبّر عنها على نحو شفّاف، فإنّه من مهّام التأويل المفهومي للكينونة أن يتكفّل بتفكيك بنائها تفكيكا نقديّا بحثا عن المصادر التي تنتمي إليها هذه المفاهيم. وقد وضّح هيدغر هذا التمشيّ بدقّة أكثر ضمن درس صيف 1927 (المجلّد 24، الصفحة 31).
يوضّح هيدغر أنّ الـ “Destruktion” هي المنهج الذي يفهم على أنّه “des-struere” أو “ab-bauen” (نقيض البناء)، بمعنى “فكّك” (dé-faire) وليس بمعنى دمّر. إنّ ما يتمّ تفكيكه هو معنى الكينونة ضمن البنى المتراكمة طيّة بطيّة (les plis)، أو طبقة بطبقة (les couches)، فتكدّست فوق بعضها البعض وأدّت إلى تحجّب وانحجاب معنى الكينونة نفسه . فالغرض الرئيس الذي يشير إليه مصطلح Destruktion هو النظر في مسألة الكينونة من جهة التسآل التاريخاني الذي يرشدنا إلى تاريخها الخاصّ وتصبح بهذا المعنى “تأريخيّة” أي تعمد إلى “التملّك الموجب لماضيها” وحيازة المعاني الأصيلة المتعلّقة بالإمكانات الأخصّ لمسألة الكينونة نفسها . لا تعني عبارة Destruktion إذا مجرّد “الهدم” أو التقويض”، وقد كان هيدغر قد وضع مصطلح « Parestruktion » ضمن “درس شتاء 1921-1922عن أرسطو” ليصف به حركة الحياة الدؤوبة نحو “بناء” ذاتها، فيبدو مقابلا لمصطلحDestruktion.
وقد استخدم هيدغر نفس الكلمة بنفس المعنى، ضمن كتابه كانط ومشكل الميتافيزيقا(Kant et le problème de la métaphysique) ، المنشور سنة (1929). وقد تحدّث هاهنا عن الحاجة إلى إعادة النظر في تاريخ الأنطولوجيا الغربية استنادا إلى طريقة تهدف إلى الكشف والتوضيح لموضوع دراستها وكيفيّة تطوّره. وهو ما حتّم ضرورة فكّ تقاليد الأنطولوجيا المتكلّسة من خلال عمليّة “الهدم” أو “التقويض”.
3- داريدا الباروكي:
يتحدّث محمد شوقي الزين ضمن دراسته” دريدا الباروكي: رؤية الانعطاف الدريدي داخل النص الفلسفي الغربي“. عن مقولة “الباروك” في علاقتها بمقولة الكلاسيك قائلا: ” لمقولة “باروك” غريبة عن الاشتغال الفلسفي والأدبي المعاصر. كانت هنالك حُمَّى عودة الباروك في منتصف القرن العشرين سرعان ما تلاشت أمام سطوة الكلاسيك. الباروك/الكلاسيك ثنائية قادمة من غياهب الزمن تقول العلاقة بين الشاذ والعادي، بين العرفاني والبرهاني، بين الانفعالي والفاعل، وغيرها من الثنائيات التي أعطت الأولوية والصدارة لما هو منسجم ومنطقي وأقصت المنعرج واللاعقلاني في دائرة الاختلال الأسلوبي والنظري. في الأصل، كانت العلاقة بين الباروكي والكلاسيكي مجرَّد اختلاف في الذوق الجمالي، بين فنون أو آداب تعطي القيمة للانسجام والعقل وأخرى تحتفي بالانكسار في الأشكال والحمولة العاطفية القويَّة في الإدراك. لكن سرعان ما انتقلت هذه الثنائية الحصرية في الفن (أوروبا القرنين 16 و17م، خصوصاً في إيطاليا) إلى ثنائية أنطولوجية تعبّر عن نظامين مختلفين في الرؤية والحساسية؛ وواصلت مسيرتها إلى غاية الأزمنة المعاصرة لتنعت الكلاسيكي كل فكر أو فن أو أدب يأخذ بالعقلاني والحداثي، وتنعت الباروكي كل من يأخذ بالهامشي والاستثنائي وتمَّ حشر السريالية وما بعد الحداثة في هذه القيمة الباروكية. [6]“
تضمّن هذا البحث عدّة علامات هادية ومؤشرات حول داريدا الباروكي قسّمها إلى ثلاثة عناصر:
أ-فلسفة باروكية أم باروك في الفلسفة؟
ب-شجرة الباروك: الجذور، الجذوع، الفروع.
ج-دريدا باروكيا: انعطاف في النصّ الفلسفي الغربي.
إنّ الغرض الذي يحدّده صاحب المقال هو “تبيان عناصر باروكية متسلّلة في الفلسفة الدريدية، وتبيان مفهوم الباروك الذي كان فترة زمنية وأسلوباً فنياً ليصبح مفهوماً إجرائياً عابراً للأزمنة ومرتحلاً بين أشكال الفكر والثقافة، وليحط رحاله في الفلسفات الأكثر توراناً على العقل والتمركز الحضاري”[7].
4-نقد العلامة عند دريدا:
تضمّنت هذه الدراسة المطوّلة التي ساهم بها رسول محمّد رسول (“نقد العلامة في فلسفة جاك دريدا: من هيمنة الدال الميتافيزيقية إلى فضاء الدلالات الـمنفرجة.”) تناولا لبدايات استقبال دريدا في العراق، وبحثت في عدّة علامات مميزة للفكر الدريدي: سلطة المركزيات، مفردة التركيب، الاختلاف المرجئ، الكتابة، الكتابة والأثر، العلامة. يرى رسول محمد رسول أنّ البحث في العلامة عند جاك دريدا له طابعه الخاصّ نظرا لكونها صارت موضع بناء جديد دون أن تقطع علاقتها بتاريخ العلامة ضمن الموروث الفلسفي واللغوي على حدّ السواء، وإن كان دريدا قد دخل إلى عوالم العلامة بوصفه فيلسوفا لا بوصفه لغويّا. يُعيد دريدا التفكير في العلامة نظرا لأنها أضحت ضحية الهيمنة المعرفية المتعاقبة. ويضيف رسول محمد رسول قائلا:”
“إلى جانب ذلك، تطلَّبت إعادة البناء الجديدة من دريدا للعلامة الركون إلى بعض الاستراتيجيات الإجرائية المتعاضدة التي تعمل وفق استراتيجية فكرية مثل التفكيك (Deconstruction)، والاختلاف المرجئ (Différance)، والكتابة الأصلية أو المحضة (Pour or Archie Writing)، والأثر (Trace)، وغيرها من المفاتيح التي ستسهم في بناء مفهمة جديدة للعلامة، وهو ما يؤكِّد أن دريدا الذي زحزح مفهوم العلامة التقليدي، وفكَّك كيانه الوجودي، وشتت سلطانه الميتافيزيقي الذي يحكم بسيف بتار مركزية الدال والمدلول والدلالة الساكنة والنهائية، والصوت، لا ينفي وجود العلامة إنما يبتنيه وهو المخنوق بثنائيات المحسوس والمعقول، والواقع والفكر، والدال والمدلول، والصوت والظاهرة، والغياب والحضور، يبتنيه في فسحة جديدة تمنحه حرية الانطلاق المستمر لتوليد دلالات تنتج نفسها”[8].
يُعرّف رسول محمّد رسول العلامة على أنّها “واجهة لمعقولية اللوغوس، وواجهة تمثيل لثنائية المحسوس والمعقول”. غير أنّه يتبيّن أنها مشحونة بحمولات ميتافيزيقية لكونها تدور في فلك الماورائيّ. فعلم السِّيمياء هو علم تمثيل ميتافيزيقي، علم مطابقة بين العقل والواقع، وهو الأمر الذي يفضي بدريدا إلى “اعتبار عصر العلامة هو أساساً لاهوتياً وقد لا ينتهي أبداً” (جاك دريدا، في علم الكتابة، ص 76.). فالعلامة، ووفقاً لهذا المنظور، “تدلُّ على دال، يدلُّ هو نفسه على حقيقة خالدة مفكَّر فيها، حقيقة منطوقة على نحو خالد، وعلى مقربة من لوغوس حاضر” (جاك دريدا: في علم الكتابة، ص 77.).
ووفقاً لذلك، يحدّد رسول محمد رسول “موضوع العلامة” على أنّه -ومنذ ما يقرب من نصف قرن- “عبارة عن عملية احتضار لتراث كان يزعم استخراج المعنى والحقيقة والحضور من حركة الدلالة”. ويخلص هذا البحث إلى جملة من النتائج من بينها “أنّ يميز بين العلامة الصوتية والعلامة الكتابية أو الخطية الناتجة عن أثر كتابي أو العلامة – الأثر، والعلامة – الكتابة، والعلامة – البصمة كأثر، ولا ينبغي أن نفهم من ذلك أن دريدا لا يعتبر العلامة الموسيقية علامة، لكنه ينفي العلامة الصوتية التي ترتد إلى منطق اللوغوس السلطوي أو إلى منطوق صوتي متمترس الحضور على نحو مطلق كأصل، فالكلمة المنطوقة، بهذا المعنى، عبء يمحي الاختلاف المرجئ. كما تمارس العلامة حضورها من خلال لعبة الاختلافات وتعدُّد المعنى. فتستكشف العلامة في كل نصّ علاقات العوالم الخبيئة والمنسية والمغيبة والمسكوت عنها واللامفكَّر فيها في الوجود المكتوب الذي يظهر كآثار قابلة لأنه تصبح علامات. ومثلما المعنى هو ابن التوقُّع، فإنّ العلامة كذلك هي بنت للتوقُّع القادم من دون أي سياق محسوم تمضي أو تتحرَّك في فضائه”[9].
5-دريدا، المتاهة الدائرية:
ركز محمد بكاي دراسته ” التفكيك والمعنى بين الرؤية الفاحصة والقراءة الفاضحة”على البحث في الصـعوبات التي تعترض التفكيـك”، ولخصها في “تطرقه لمباحث لم يتم التفكير فيها مثل الجنون والهامش والكتابة والأثر وغيرها”. قسم محمد بكاي مقاله إلى ستّ نقاط أساسيّة: (جاك دريدا أيقونة التفكيك، تشخيص الجهاز المفاهيمي للتفكيك، التفكيك وتجريح النصوص، الكتابة المتشظية ومنطق المحو، التفكيك ومتاهات القراءة، حدث الكتابة..خطفات التفكيك).
يتجند دريدا بآليات التفكيك للولوج إلى مغامرة القـراءة ومتاهـات التأويل، غير أنّ التفكيك ليس بمنهج له قواعده العلمية، ليس منهجا صارما بل هو ممارسة على تخوم الممكن والمستحيل”. يفضح التفكيك عجز النماذج ويفتح الأفق أمام الممكن والمتعدّد، فيكشف زيف الأحاديات التي رسختها الهويات ومنطق الدوغمائيات.
ينشد التفكيك الدريدي التعدد، لكنه لا يمكنه أن يبلغه إلا إذا مارس “تجريح النصوص”، ففي كل تجريح ينزاح السياج الذي يحيط بالنصّ. يكتب محمد بكاي قائلا:” لا شك أنّ التفكيك في بداياته لا شك أن التفكيك في بداياته وجّه ضربات عنيفة لمنطق الانتظام الفلسـفي أو الرؤية الشمولية للواقع والحقائق التي لا تخلق من جرّاء ذلك إلا أفقا من التسييج والانغلاق، وكانت سنة1967 منصة انطلاق المشروع الدريدي، عندما أصـدر ثلاثة كتب (الصوت والظاهرة، والكتابة والاختلاف، وفي الغراماتولوجيا) مثّلـت زلزالا ولطمة موجعة للتيارات الفلسفية النسقية الموجودة في عصـره. وكانـت نصوص التفكيك الأولى عبارة عن مطالبات بتقويض وتفجير الأسـس الغربيـة
المتعالية للعقل والذات، وقد مزق بذلك، وبروح هيدجرية، صرح الغرب العقلاني العتيد بصبرٍ وأناة قطعةً قطعةً وكلمةً كلمةً”.
يصل دريدا بالفلسفة إلى تجريح النصوص وتشخيص الحقائق وليس تأكيدها، وقد ينقلب هذا التجريح إلى حدّ اللعب الطفولي والطفيلي بالنصوص والخطابات “وهو في ذلك شبيه بألتوسير حينما يحفر بعمق في الطيات أوينتهج الدهاليز والأزقة والسراديب ليُشخّص الأمراض ويقرأ الأعراض، عبر لسان فصيحٍ وبليـغ يتوه دريدا داخل سرية البلاغة وسردية الكتابة ليطارد أشباح الحروف ويُحيي مـن جديد غراماتولوجيا طوتها الميتافيزيقيات وأرهقتها العقلانيات”[10].
خاتمة:
يثير محمد بكاي في تقديمه للكتاب جملة من التساؤلات والارباكات: “كيف نال دريدا كل هذه البهرجة والضجيج الإعلامي بأمريكا؟ من أين له هذا البريق الذي استحوذ عبره على فوكو وسارتر هناك؟ هل الاختلاف هو العملة النادرة التي كان يبحث عنها الوجه الأكاديمي والأخلاقي في أمريكا؟ هل يثير دريدا كــ”ظاهرة” الإعجابَ أم الاشتباه؟”(محمد بكاي، “تقديم الكتاب: جاك دريدا وَهْمُ الـمعنى وَهَمُّ الكتابة”، جاك دريدا، فيلسوف الهوامش).
أفضت هذه التساؤلات إلى تفسير نجاح دريدا في حلّه للغز الكتابة، باحترافه للغز الاختلاف (différance) وبإتقانه لنظرية التفكيك التي شاع استعمالها في العالم شرقا وغربا وصارت موظّفة في مجالات مختلفة: بين الفلسفة والنقد الأدبي، والنظرية السياسية والفنّ، ووظّفها رجال الدّين والـمعماريون ونقاد الـموسيقى، وانتقلت من السينما إلى الهندسة مرورا بالتاريخ والقانون، وقد قاوم دريدا بشدّة الانتقادات التي وجّهت له متحدّيا المعايير الأكاديمية والنقد المرير.
كما وضّح المحرّر في تقديمه للكتاب أنّه “عبر الـمساهمات الـمبثوثة في صفحات هذا الكتاب سعي نظري وتحقيق خطابي في جدلية دريدا ونصوصه الـمزعزعة لاستقرار الـمسلّمات الثنائية، بحث يتجذر في تدميرية النص واستحالات الـمعنى، وتعرّض موسوعي للاشتغال التقويضي على البنى التقليدية والبديهية وكشف لامعقوليتها”[11]. كما يبيّن كذلك أنّ هذه القراءات تطمح لـمضاعفة حركية الاهتمام الثقافي العربي بفكر التفكيك واستمراريته، للحصول على قراءات نسبية ومختلفة لفكر يتعسّر الامساك بدلالاته.
وهكذا مثل هذا الكتاب ضربا من “الورشة الكتابية” تعرض فلسفة دريدا ذهابا وإيابا، تفكيرا ونقدا وتأويلا، رامية إلى استخلاص الخبرة الفلسفية من تفكيكية دريدا. وصف محمّد بكاي جملة هذه البحوث بأنّها” عودة شبحية لدريدا أو عدوى لا تفارق القارئ لتجعل فكره مشرقا وقلبه متشوقا لمفكر هَرَم (Pyramide) كجاك دريدا (التقديم)”. ويضجّ هذا الكتاب بحيويّة قرائيّة يشبّهها “بـمباراة لا نـهائية، بـمرارة مطلقة، مرارة الكتابة الثكلى بالحداد، التي لا تفنى لعنتها، فهي نصيات لا تنتهي لعبتها”[12].
د.فوزية ضيف الله
جامعة تونس المنار
[1] -جاك داريدا، الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، تقديم محمّد علال سيناصر، المغرب، الدّار البيضاء، دار توبقال للنشر، سلسلة المعرفة الفلسفيّة، 2000، ص.62.
-[3]داريدا، الكتابة والاختلاف، ص.58.
[4]-هيدغر، الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، المقدّمة، الفقرة 8، ص.106. يكتب مترجم الكتاب في الهامش عدد 4 من الصفحة 106 أنّه “رغم أنّ هذا الجزء الثاني من الكتاب لم ير النور، فإنّ هيدغر قد قام فعلا بمهمّة التفكيك الثلاثيّة هذه، حيث نعثر عليها في النصوص التالية: أ- كانط: درس شتاء 1925-1926، § 22- §36 (المجلّد 21 من الطبعة الكاملة)، درس صيف 1927، §7، §9، 13-14 (المجلّد 24)، درس شتاء 1927-1928 (المجلّد 25)، وكتاب 1929 “كانط ومشكل الميتافيزيقا، ب- ديكارت: درس شتاء 1923-1924 (المجلّد 24). أرسطو: درس صيف 1924 (المجلّد 18)، درس شتاء 1924-1925، §4 -§31 (المجلّد 19)، درس صيف 1926 (المجلّد 22)، درس صيف 1927، §19 (المجلّد 24).
[5] – هيدغر، الكينونة والزمان، الفقرة 6، ص ص.79-80.
[6]-محمد شوقي الزين،” دريدا الباروكي: رؤية الانعطاف الدريدي داخل النص الفلسفي الغربي”. جاك دريدا فيلسوف الهوامش، تأملات في تأملات في التفكيك والكتابة والسياسة ، بيروت/ الجزائر، ضفاف/الاختلاف، أوت، 2017.
[8]-رسول محمد رسول، “نقد العلامة في فلسفة جاك دريدا: من هيمنة الدال الميتافيزيقية إلى فضاء الدلالات الـمنفرجة”، جاك دريدا فيلسوف الهوامش، تأملات في التفكيك والكتابة والسياسة ، بيروت/ الجزائر، ضفاف/الاختلاف، أوت، 2017.
[10] -محمد بكاي،” التفكيك والمعنى بين الرؤية الفاحصة والقراءة الفاضحة”، دريدا فيلسوف الهوامش، تأملات في التفكيك والكتابة والسياسة، ص.397.