“جرانتي العزيزة”: العرض الأخير… العرض الوصية للفاضل الجزيري من ركح مهرجان الحمامات الدولي
كمن يختار الركح منصة الوداع، قدم فاضل الجزيري على مسرح الحمامات أمس الأحد 10 أوت 2025 مسرحيته “جرانتي العزيزة” التي جاءت كشهادة فنية مكثفة حول علاقة الفن بالسياسة في تونس من الاستقلال إلى ما بعد الثورة. وقد كان هذا العرض الذي تم تقديمه ضمن الدورة 59 لمهرجان الحمامات الدولي بمثابة رسالة حب ووفاء لجمهوره وبلده وتاريخه، وكأنه يدرك أن هذه الليلة ستكون الأخيرة. ففي فجر اليوم الموالي، أسدل الستار على حياته ليرحل تاركا إرثا من الإبداع سيبقى حاضرا في ذاكرة المسرح والسينما والموسيقى التونسية والعربية.
مسيرة فنية حافلة وإرث خالد
ولد فاضل الجزيري سنة 1948 وبدأ شغفه بالمسرح في أواخر الستينيات ضمن نادي الشبيبة المدرسية بالمعهد الصادقي، قبل أن يكمل دراسته في لندن وباريس. عاد لتونس ليؤسس عام 1971 مهرجان المدينة وفرقة مسرح الجنوب بقفصة، حيث ساهم في نشر حركة اللامركزية الثقافية بأعمال بارزة.
قدم أعمالا مسرحية خالدة مع فرق “المسرح الجديد” منها “الكريطة” و”العرس” و”الورثة” و”التحقيق” و”غسالة النوادر”. كما أسّس “تونس للإنتاج” بعد 1990 وواصل تقديم عروض مسرحية وسينمائية متنوعة، حاز بعضها جوائز وأقام تاريخا في المهرجانات الكبرى.
وحقق الجزيري نقلة نوعية في العروض الموسيقية عبر عروض مثل “النوبة” و”الحضرة” و”نجوم” و”كاليغولا”. ونال مكانة رائدة في السينما من خلال أفلام مثل “العرس” و”غسالة النوادر” و”عرب” و”ثلاثون” و”خسوف” حيث خلد فنه عبر مراحل متجددة. وفي سنة 2022، حقق حلمه بتأسيس مركز الفنون بجزيرة جربة الذي جسّد فكرته في تعزيز اللامركزية الثقافية وتثمين التعبيرات الفنية الجهوية ليكون منارات جديدة للإبداع التونسي.
الملخص:
في ساعتين من الزمن المسرحي، يستدعي الجزيري قامات تونسية لا تُنسى: بورقيبة، اليوسفيون، نويرة، أحمد بن صالح، الشاذلي القليبي، عبد الرؤوف الباسطي، “برسبكتيف”، وهدير الثورة في 14 جانفي. يوزع التحية على أساتذة الموسيقى والمسرح: أحمد عاشور، “زلاطكا”، “ياروش”، “سترينو”، عبد الحميد بن علجية، السيد شطا، محمد إدريس، الحبيب بولعراس… ويترك باقة وفاء للمصور الحبيب المسروقي.
“ماهر” الملقب بـ”بيتهوفن” ليس مجرد شخصية مسرحية؛ هو ظل الجزيري وصدى صوته وهو يتتبع نصف قرن من العزف والحكايات في فرقة الإذاعة الوطنية. هنا، يذوب الفن في السياسة، وتتشابك الأوتار مع الخطب، والموال مع نشرة الأخبار.
لكن الحكاية لا تخلو من وجع شخصي: زوجة ماهر، رفيقة الدرب، اختارت الرحيل إلى السعودية، تاركة خلفها قلبًا بقي مع “الجرانة” والكمنجة. الانفصال هنا ليس فقط قصة حب انتهت، بل استعارة عن وطن افترق عن أحلامه بعد الثورة.
الستار الأول يفتحه عزف البيانو لإلياس البلاقي، وصوت إشراق مطر ينساب كراوية ألف ليلة، لكن الحكاية ليست أسطورة؛ إنها سيرتنا نحن، بتاريخها المتكسّر بين الانتصار والانكسار. الموسيقى تكتمل بتشيللو لطفي الصافي وكمنجة مهدي ذاكر، فيما الأجساد تحكي بالكوريغرافيا التي يرسمها غيث نفاتي، لتصبح الخشبة فضاءً يتنفس بالحركة والصوت والضوء.
وعندما يسدل الستار، يبقى السؤال معلقًا في أذهاننا: هل يمكن للفن أن يعيش بمعزل عن السياسة؟ وهل يمكن لفرقة الإذاعة الوطنية أن تستعيد روحها التي ذبلت؟
جرانتي العزيزة “ للفاضل الجزيري سيرة الذات والفن والوطن، على إيقاع الخرافة الهزلية:
وسط الظلام، يحضر نور الموسيقى، يخترق الشخوص والذاكرة والزمان. خمس شخصيات، كأنها خمس نوتات موسيقية، بلا انتظام، كلما تحركت واحدة، تحدث الصوت أو النغم أو الحكاية، أو توشح الركح بالرقص والمرح.
الراوي، عازف البيانو، الأعمى، هو الجزيري نفسه، يمثل دوره ويحكي خرافته.. هو الذاكرة المنسية. يعرف التفاصيل والتواريخ والشخوص.
الكمنجة حاضرة على امتداد العرض، هي شخصية أخرى متوارية لكنها حاضرة كيانا وفعلا.
الثنائي: عازف كمنجة من فرقة الإذاعة هو راو ثان، وزوجته التي عشقها ثم افترقا، وعازفين آخرين.
شتات الركح هو شتات الذاكرة، ليس المهم انتظام الركح والأشياء، بل انتظام الخرافة في وجه الذاكرة، على لسان الراوي. لا تحتاج عملية التذكر إلى النور الطبيعي بل إلى نور فني وهذا النور ينبعث من الموسيقى
يعود عازف الكمجنة “عاشق الجرانة العزيزة” إلى التاريخ الموسيقي لفرقة الإذاعة، ومن هذا التاريخ، يستحضر المشاهير “المعلمية” (أحمد عاشور، رضا القلعي، علي الرياحي، عبد الحميد بن علجية، صالح المهدي وغيرهم). لكن عبر التاريخ الموسيقي، يتم استحضار تاريخ تونس الاجتماعي والسياسي، وكذلك سيرة الفنانين..وسيرة الفن.
تنفتح “لجرانتي العزيزة” على عدة أساليب وأنماط مسرحية، فهي تجمع بين البعد الدراماتيكي (dramatique)، البعد الغنائي (lyrique)، والبعد الملحمي (épique)، في قالب فرجوي مرح.
تبرهن هذه “الفسحة الهزلية” على أن الخرافة يمكن أن تكون أسلوبا ممتعا، توثيقيا، فرجويا، ودراماتيكيا. فيكون اللعب بين الأدوار، مرنا سلسا، وهو النمط الذي يجعل المتفرج مرتاحا، لا يحس بمرور الوقت، يستقبل الحكاية تلو الأخرى، وبينهما مسافة من الفرح الموسيقي، والبهجة في الألوان، حتى في أصعب اللحظات التي عاشها الزوجان.
يحضر تاريخ تونس الاجتماعي والسياسي على لسان الراوي الأساسي، عازف البيانو، محرك الخرافة، ويحضر تاريخ تونس الفني على لسان عازف الكمنجة، ويشاركه الراوي وعازف العود في تعديل الحكاية أو تجميلها وتطعيمها بالفكاهة والمتعة.
أحداث مصيرية عاشتها تونس، وأخرى عاشتها الذات الراوية، ذات الفنان، يذكر هذا الفن أن الفشل لا يمكن أن يكون فنيا، وأن الفنان الحقيقي يكبر حتى بخساراته، أو هو لم يكن ضمن صفوف الباحثين عن الربح المادي، بل يرغب في حفظ الذاكرة التونسية من خلال مقاطع فنية، تمسح الضجر على قلوب التونسيين، وتجعلهم مستمتعين وهم يتذكرون تاريخهم. لا ينبغي للذاكرة أن تتألم عندما تتذكر حتى تشفى، فالذاكرة الحقيقية هي القادرة على اللعب مرحا بما لديها، وتتقدّم من خلال تشكيل الفرجة من كل ما حدث.
ليس الأمر مجرد توثيق، أو تأريخ، لكنه سرد ماتع، خرافة فرجوية، موسيقى تحيّر بعصا العماء التي عمّت ذاكرة نامت وتصدّعت، عجزت عن الفرح بما حققته، ونسيت ما لديها من جمال موسيقي وحضارة وسعي، وكذلك نسيت العثرات الماضية وركزت على أزمة حاضرة.
حتى تكون العودة للتاريخ إيجابية، لا بدّ من خلق الفرح، ابتكار أنفسنا فنيا، ضمن ما لدينا، صناعة مستقبلنا مسرحيا ضمن ما لدينا، ازالة الحدود بين الأنماط، كسر عتبة الخوف من المغامرة وتجريب ما هو غير مألوف.
تحضر المراهنة على المرأة، وعلى حرية النساء، من خلال الحضور البهي والآداء المبهر لاشراق مطر. وهي تونس التي قررت أن ترى مستقبلها كما تريد، وعليها ان تفتك ذاتها وكيانها، وتواصل نضالات “الطاهر الحداد” والزعيم بورقيبة ومجلة الأحوال الشخصية. كانت المرأة محور تاريخ تونس الاجتماعي والسياسي والفني، وهي التي تتلون وتصبح في كل مرة أقوى لأجل أن لا تسقط راية الوطن وراية الحرية والإرادة المقتدرة.
تجمع هذه “القطعة الهزلية” بين شظايا المرآة التي يرى فيها الجزيري، ذاته، وطنه، وفنه، يجمعها، دون الحرص على تنظيمها، لان ذلك ليس مهما. ولكن يجمعها بحذر، دون جروح، ليشكل من خلالها مرآة أخرى يرى فيها المتفرج نفسه وبلاده وتاريخه. هذه الشظايا هي شطحات هزلية، معزوفات، دندنات، آهات، تلونت واجتمعت لتتنفس على الركح هواء جديدا، وتحيا حياة ثانية.
“جرانتي العزيزة انتاج مركز فنون جربة والمسرح الوطني بالتعاون مع مسرح أوبرا تونس
اخراج الفاضل الجزيري
تمثيل: إشراق مطر، سليم ذيب، إلياس بلاقي، مهدي ذاكر، لطفي الصافي
مساعد توضيب ركحي، سامية بن عبد الله
فوزية ضيف الله