” جرانتي العزيزة “
للفاضل الجزيري
سيرة الذات والفن والوطن، على إيقاع الخرافة الهزلية
“جرانتي العزيزة” هو عنوان العمل المسرحي الجديد للفنان الفاضل الجزيري، انتاج مركز الفنون جربة والمسرح الوطني التونسي.
وسط الظلام، يحضر نور الموسيقى، يخترق الشخوص والذاكرة والزمان. خمس شخصيات، كأنها خمس نوتات موسيقية، بلا انتظام، كلما تحركت واحدة، تحدث الصوت أو النغم أو الحكاية، أو توشح الركح بالرقص والمرح.
الراوي، عازف البيانو، الأعمى، هو الجزيري نفسه، يمثل دوره ويحكي خرافته. وهو أعمى لأن بصيرته هي الموسيقى. هو الذاكرة المنسية. يعرف التفاصيل والتواريخ والشخوص.
الكمنجة حاضرة على امتداد العرض، هي شخصية أخرى متوارية لكنها حاضرة كيانا وفعلا.
الثنائي: عازف كمنجة من فرقة الإذاعة هو راو ثان، وزوجته التي عشقها ثم افترقا، وعازفين آخرين.
شتات الركح هو شتات الذاكرة، ليس المهم انتظام الركح والأشياء، بل انتظام الخرافة في وجه الذاكرة، على لسان الراوي. لا تحتاج عملية التذكر إلى النور الطبيعي بل إلى نور فني وهذا النور ينبعث من الموسيقى
يعود عازف الكمجنة “عاشق الجرانة العزيزة” إلى التاريخ الموسيقي لفرقة الإذاعة، ومن هذا التاريخ، يستحضر المشاهير “المعلمية” (أحمد عاشور، رضا القلعي، علي الرياحي، عبد الحميد بن علجية، صالح المهدي وغيرهم). لكن عبر التاريخ الموسيقي، يتم استحضار تاريخ تونس الاجتماعي والسياسي، وكذلك سيرة الفن والفنانين وسيرة الذات..
تنفتح “لجرانتي العزيزة” على عدة أساليب وأنماط مسرحية، فهي تجمع بين البعد الدراماتيكي (dramatique)، البعد الغنائي (lyrique)، والبعد الملحمي (épique)، في قالب فرجوي مرح.
تبرهن هذه “الفسحة الهزلية” على أن الخرافة يمكن أن تكون أسلوبا ممتعا، توثيقيا، فرجويا، ودراماتيكيا. فيكون اللعب بين الأدوار، مرنا سلسا، وهو النمط الذي يجعل المتفرج مرتاحا، لا يحس بمرور الوقت، يستقبل الحكاية تلو الأخرى، وبينهما مسافة من الفرح الموسيقي، والبهجة في الألوان، حتى في أصعب اللحظات التي عاشها الزوجان.
يحضر تاريخ تونس الاجتماعي والسياسي على لسان الراوي الأساسي، عازف البيانو، محرك الخرافة، ويحضر تاريخ تونس الفني على لسان عازف الكمنجة، ويشاركه الراوي وعازف العود في تعديل الحكاية أو تجميلها وتطعيمها بالفكاهة والمتعة.
أحداث مصيرية عاشتها تونس، وأخرى عاشتها الذات الراوية، ذات الفنان، يذكّر هذا الفنّ أن الفشل لا يمكن أن يكون فنيا، وأن الفنان الحقيقي يكبر حتى بخساراته، أو هو لم يكن ضمن صفوف الباحثين عن الربح المادي، بل يرغب في حفظ الذاكرة التونسية من خلال مقاطع فنية، تمسح الضجر على قلوب التونسيين، وتجعلهم مستمتعين وهم يتذكرون تاريخهم. لا ينبغي للذاكرة أن تتألم عندما تتذكر حتى تشفى، فالذاكرة الحقيقية هي القادرة على اللعب مرحا بما لديها، وتتقدّم من خلال تشكيل الفرجة من كل ما حدث.
ليس الأمر مجرد توثيق، أو تأريخ، لكنه سرد ماتع، خرافة فرجوية، موسيقى تحيّر بعصا الراوي، توقظ ذاكرة نامت وتصدّعت، عجزت عن الفرح بما حققته، ونسيت ما لديها من جمال موسيقي وحضارة وسعي، وكذلك نسيت العثرات الماضية وركزت على أزمة حاضرة.
حتى تكون العودة للتاريخ إيجابية، لا بدّ من خلق الفرح، ابتكار أنفسنا فنيا، ضمن ما لدينا، صناعة مستقبلنا مسرحيا ضمن ما لدينا، ازالة الحدود بين الأنماط، كسر عتبة الخوف من المغامرة وتجريب ما هو غير مألوف.
تحضر المراهنة على المرأة، وعلى حرية النساء، من خلال الحضور البهي والآداء المبهر لاشراق مطر. وهي تونس التي قررت أن ترى مستقبلها كما تريد، وعليها ان تفتك ذاتها وكيانها، وتواصل نضالات “الطاهر الحداد” والزعيم بورقيبة ومجلة الأحوال الشخصية. كانت المرأة محور تاريخ تونس الاجتماعي والسياسي والفني، وهي التي تتلون وتصبح في كل مرة أقوى لأجل أن لا تسقط راية الوطن وراية الحرية والإرادة المقتدرة.
تجمع هذه “القطعة الهزلية” بين شظايا المرآة التي يرى فيها الجزيري، ذاته، وطنه، وفنه، يجمعها، دون الحرص على تنظيمها، لان ذلك ليس مهما. ولكن يجمعها بحذر، دون جروح، ليشكل من خلالها مرآة أخرى يرى فيها المتفرج نفسه وبلاده وتاريخه. هذه الشظايا هي شطحات هزلية، معزوفات، دندنات، آهات، تلونت واجتمعت لتتنفس على الركح هواء جديدا، وتحيا حياة ثانية.
“جرانتي العزيزة انتاج مركز فنون جربة والمسرح الوطني بالتعاون مع مسرح أوبرا تونس
اخراج الفاضل الجزيري
تمثيل: إشراق مطر، سليم ذيب، إلياس بلاقي، مهدي ذاكر، لطفي الصافي
مساعد توضيب ركحي، سامية بن عبد الله
فوزية ضيف الله