توفيق قريرة (أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية)
من نوادر الأخبار أن الأعمش (ت148هـ/765م) وهو من حَفظة الأحاديث روى أن رجلا أتى إلى عامر الشعبي الفقيه والمحدث (ت103 هـ/ 721م) فقال له: ما اسم امرأة إبليس؟ فقال عامر: ذلك عرس لم أحضره.
غالبا ما تروى لنا النوادر لنضحك فهي أقوال أو أعمال كلامية ما يفيد فيها هو «لازم فعل الكلام» Perlocutionary Act على حد عبارة أوستين وهو أثر الكلام فينا وما ينتجه من رد فعل، وهو في سياق الحال أن نضحك.
إلا أن الأقوال تشبه أحيانا فاكهة فيها قشور ولب. وهناك فاكهة تؤكل قشورها ويرمى لبها وأخرى يؤكل لبها وترمى القشور. الضحك عند من طلب من النادرة السابقة، قد يكون اللب وتكون البقية قشورا ترمى، لكننا سنتعامل في هذا المقال مع هذه القشور التي تلف الإضحاك الذي لن يعنينا.
الشعبي عالم بالتوصيف القديم لهذه العبارة، وصفة العالم لا يفهمها الناس فهما واحد؛ فعامة الناس، والسائل عن اسم زوجة إبليس منهم، يفهم منها شيئا من موسوعية المعرفة واتساعها، حتى إن العالم لا يمكن أن يغادر صغيرة أو كبيرة إلا علمها، لذلك على الشعبي عالما أن يكون عارفا بإبليس وبزوجته واسمها. العالمية التي في ذهن السائل ليست هي العالمية التي في ذهن الفقيه، هي شيء أكثر مما يخطر ببال العالم أصلا.
أصل السؤال عن الاسم، أن السائل حمل شيئا على نقيضه: حمل آدم على إبليس في عناصر كثيرة أهمها أنه إذا كان لآدم زوجة اسمها حواء فإن لعدوه النقيض زوجة، ولها اسم لكنه غير معلوم، لذلك طرح السؤال لمعرفته. السؤال يترجم حاجة معرفية، لكنها مبنية على قياس ومبنية على وعي بأن الأسماء بما هي معينات لمسمياتها هي جزء من المعرفة بالكيانات. يظل الشخص مجهولا بعض الجهل، حتى تعرف اسمه وحين تعرفه باسمه يمكن أن تناديه به، أو تسند إليه ما تشاء من الأعمال والأحوال.
هناك اسمان علمان مناظران اشتغل عليهما الذهن هو آدم وحواء، وفي التناظر ظلت خانة فارغة هي خانة أنثى إبليس، لكن لهذا التناظر خلفيات تَمَثل لا تبدو مشكلية بالنسبة إلى السائل، وهي هل أن لإبليس زوجة كما لآدم زوجة؟ يبدو الأمر مسلما به، لا لأسباب قياسية مجردة، بل بحجة نصية فالنص القرآني يذكر في سورة الكهف (50) أن لإبليس ذرية يقول تعإلى (فَسَجَدُوا إلا إبليسَ كان من الجن فَفَسَقَ عن أمْر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو). لسنا نريد الدخول في تفاصيل إنجاب إبليس أبناء، وفي تعدد الروايات، ولاسيما اليهودية التي تذكر اسما لهذه الوالدة وهي «ليليت» التي كانت مع آدم ثم تحولت إلى صاحبة لإبليس، ولا نريد التساؤل إن كان السائل يعرف هذه المعلومة، إنما نريد باعتبارنا لسانيين أن نعلم الأسباب غير اللغوية التي دعت السائل إلى أن يسأل عن اسم، وهي أسباب في ما نرى ثقافية تصنع مخيالا تناظريا يبين عن حلقة مفقودة هي حلقة اسم صاحبة إبليس وأم ذريته.
نحن نسير في هذا المقام بالمسألة في وجهة لسانية لها صلة ببذخ الأسماء في الثقافة العربية الإسلامية، وما يمكن أن يدل عليه هذا البذخ من إرادة تعيين تفصيلي لدقائق المرجعيات الثقافية، فجزء من المعرفة في هذه الثقافة البدوية هو الإحاطة بالمسمى بواسطة معرفة اسمه العلم.
البذخ اللغوي هو أن تتيح لك اللغة تسميات لا تحتاجها حاجة ملحة، وهنا نميز هذا البذخ عن الحاجة الاصطلاحية التي من مشمولاتها أن تعين دقائق الأشياء والمفاهيم التي تحتاجها العلوم، فتلك حاجة وليس بذخا. من أمثلة البذخ اللغوي مثلا أن تجد أن للسيف أسماء كثيرة باعتبارات كثيرة مثل نوع حدته ورفعة معدنه، والبريق الصادر منه وغير ذلك من الاعتبارات، وكأن تسمى الخيل أسماء كثيرة تناهز المئتين، باعتبارات كثيرة مثل اللون والنسبة وطريقة المشي وغيرها. البذخ اللغوي ليس في كثرة أسماء المسمى الواحد وتعدده بهذه الاعتبارات، بل في وجه حاجة المستعمل إليها. فعلى سبيل المثال كانت أسماء السيف محتاجا إليها عند بائعها أو صانعها، ويمكن أن تكون كذلك عند من يجمعها، أما عند غيرهم فيمكن أن تكون التسميات من البذخ، لأن اسما واحدا منها يكفي لتعيينها. وقد يحتاج مربي الخيل قديما أو حديثا أو عالم الحيوان إلى أسمائها كي يميز فصائلها وأنواعها، لكن هذه الحاجة لا تلح عند غيرهما. خلاصة الأمر أن البذخ اللغوي هو وجهة نظر إلى عدم حاجة مستعمل المعجم إلى تلك التسميات، فإن صارت الحاجة ملحة خرجنا من دائرة البذخ.
وبالرجوع إلى سائل الشعبي، فإن معرفة اسم زوجة إبليس هي حاجة ملحة، لكنها عند الشعبي ليست إلا بذخا في التسمية. وفي هذا السياق ليس البذخ أو الحاجة نابعين من كثرة التسميات، أو قلتها بل هما نابعان من وجه الحاجة إلى تعيين اسم لكائن غير بشري يراه الشعبي غير مؤثر ويراه السائل مؤثرا. إن البحث عن تسمية عند السائل، هو ضرب من إضفاء مشروعية على نسق تصوري كامل ونظامي، فيه يتقابل آدم مع إبليس وحواء مع زوجة إبليس. هذا التقابل النظامي الشكلي أو الصوري، ليس حاضرا في ذهن الشعبي، فما يحضر في ذهنه ليس الاسم بل رمزية الاسم. البحث عن اسم لإبليسة هو ضرب من إضفاء التصديق على التصور الذي في ذهن السائل.
كان من الممكن أن يرد الشعبي على سؤال من سأله فيسعده، لكنه كان سيقدم جوابا فيه تقوّل على النصوص، وابتداع لما لا يمكن أن يبرره نص. فحتى الآية المذكورة في سورة الكهف لا تشرع له أن يحكي عن زواج بين إبليس وإبليسة، وأن للإبليسة اسما يعرفه. ولنفترض أن الشعبي أجابه بما يريد، ولنفترض أنه ابتدع له اسما فقال إن اسمها مثلا «بيليت» (على وزن ليليت في الروايات اليهودية) فهذا سيسعد السائل كثيرا، لأنه سيجعله غنيا بهذا الاسم إلى درجة البذخ. البذخ لدى السائل يكمن في أنه صار يعرف أكثر مما يعرفه عامة الناس: أن لإبليس زوجة ولها اسم، وهذا الاسم هو بيليت. قيمة هذا الاسم في الاستعمال أنه سيعوض كلاما طويلا أو وصفا مشتركا باسم يمكن أن يختصر سمات كثيرة من سمات زوجة إبليس. هذا يشبه عندنا اليوم الهاتف الذكي الذي تتكلم به وتشاهد به الفيديوهات، وتستعمله في النسخ والتصوير، هو آلة تختصر آلات، كذلك الاسم هو يختصر صفات؛ بناء على ذلك كانت الأسماء الأعلام دالة على البذخ الذي يشبه بذخ الهاتف الذكي. لكن البذخ الذي في معرفة أسماء النساء، بما في ذلك اسم زوجة إبليس، نابع من شوق قديم إلى تملك الرجال في الثقافات القديمة للنساء، بوسائط اجتماعية كثيرة، الزواج المتعدد، السبي، الشراء، أو جعلها ملكا من أملاك اليمين والتأميم، وهو ضرب قديم يصير المرأة التي مات رجلها جزءا من التركة. امتلاك أسماء النساء هو جزء من امتلاكهن، في ثقافة كان الاسم العلم يخفى بالتكنية أو التلقيب، ولا يذاع لأنه جزء من الذات التي لا بد أن تتخفى. إلا أن التعايش الاجتماعي في المدرسة، وفي الحياة اليومية، وفي وسائل التواصل الاجتماعي.. جعلت الأسماء المتسترة شائعة. بدا لنا الآن شيء مما خفي في سؤال من سأل عن زوج إبليس وشيء مما خفي من جواب الشعبي عن حكاية الزواج. فأن تعرف اسم الزوجة فذلك أمر من شأن العدول وكتبة مواثيق الزواج وليس شأن محدث وتابعي، وربما مفسر لا يتعقب الأسماء بل يتعقب الأفعال والأفكار والمعتقدات. خلاصة الأمر في هذا أن امتلاك الأسماء يمكن أن يكون جزءا من المعرفة الباذخة.