العراقي رسول محمد رسول يروي الوطن المفرط في الغياب
قراءة تأويلية لرواية “أنثى غجرية”
فوزية ضيف الله
صدرت رواية «أنثى غجرية» للروائي العراقي رسول محمد رسول، عن دار مداد للنشر والتوزيع ـ دبي 2018. احتوت الرواية عشرين فصلا على امتداد مائة وأربعة وأربعين صفحة. وهي رواية تنطق الغياب في الوطن والأهل والجسد واللغة. بطلتها أسماء يوسف، شخصية متخيلة، تشكو إعاقة طبيعية منذ الولادة، تعيش يومها بذراع واحدة وتكتب وجعها فرحا على أنغام انتهاء وضياع جميع الأوطان البيولوجية. تخلق من نقصها الجسدي إرادة اقتدار منتصرة لتكون روايتها والمقصد والقضية. يغيب الراوي ويموت الرواة جميعا لتتكلم أسماء، ويتجلى على لسانها ضمير الرواية المستتر، فتدعو القارئ إلى أن يعيش كيانها وأن يجرّب الرقص على سطح الآلام بذراع واحدة. لنجرّب الرقص بذراع واحدة.. أو جرّب (ي) أن تكون (ي) بذراع واحدة…
أنثى غجرية رواية ترقص للوجع، رواية تصنع من الوجع فرحا ومن النقص اكتمالا.. رواية تدعونا إلى الرقص على سطح الوجع؛ بل تدعو كل أنثى غجرية أن ترقص رقصتها، وأن تكون الجسد الذي ترتديه، وأن تكون العجز الذي يكتب.
إنّ «أنثى غجرية» هو الاسم الذي أطلقته أسماء يوسف، بطلة الرواية، على نفسها، هو اسمها في الرواية التي ترويها داخل الرواية الأصل. تكتب البطلة نفسها بنفسها، تسرد نفسها ذاتيا داخل لعبة السرد. داخل الروايات المتداخلة، تتخلى أسماء يوسف عن كلّ الرواة، تقتل الراوي وتتلف الرواية وجميع الروايات منذ البداية.
إنّ ما تبحث عنه أسماء فعلا هو رحيل الرواة جميعا، تريد أن تكتب روايتها هي، وتكف عن قراءة جميع الروايات؛ تكتب أسماء مخاطبة صديقها الروائيّ: « توقّف عن الكلام، قل للروائيين أن يرحلوا بعيدا عنيّ، ليرحلوا حتى عن غيري، قل لهم، وقبل إشهار موتهم، أن يبحثوا عن حرفة أخرى، قل لهم بأنّ أسماء يوسف أصبحت روايتها، قل لهم بأنَّ أسماء يوسف باتت جزؤها الأوّل، أمّا الثاني، فسيكتبها كأنثى غجرية أيضا، سيكتبها هناك في وطن آخر…»
أن تكتب أسماء يوسف روايتها معناه «أن تكون السارد والمسرود، هي القضيّة، هي مقاصد الرواية وغاياتها، هي طوافها ومطافها، هي الغلافين فيها، وجه الرواية وكلمتها الأخيرة، تحكي فيها وجودها وتعبر فيها عن كيانها».
تكتب أسماء روايتها كتابة راقصة يشكو فيها الجسد حزنه بفرح، تعزف ألمها وغربتها ومأساتها الجسدية والروحية بألحان منتشية متدفقة فتعبر الرواية، جيئة وذهابا، دون أن تحس معها بالملل. إن الممسك بالرواية لا يستطيع مفارقتها، لا يستطيع ترك الغياب للغياب، لأن هذا الغياب حاضر في أبهى حلله فيصوغ يومه ويسرد تفاصيل حياته اليومية بفرح يبكي أو بألم منتشٍ.
ندخل مع أسماء إلى روحها، وقد نتصوّر أننا قد نكون ذراعها الناقصة، ونتخيل معها كيف ستواجه الوضعيات التي اقترحت على القارئ القيام بها. كيف ستحمل أغراضا اقتنتها لتجهز فطورا عراقيا لضيفها الصحفي الفرنسي «روني»؟ كيف تستعدّ لحمامها؟ كيف ترتدي بنطالها؟ كيف تصفف شعرها؟ كيف تمسك وتوازن جسدها داخل الباص؟ كيف تطهو طعامها وهي التي تعيش بمفردها في شقة تسدد نفقتها من مداخيل ما تترجمه من مقالات فرنسية؟
من هو الراوي؟
تحضر في الرواية أصوات ثلاثة، هي: صوت الراوي «رسول محمد رسول» الذي يختفي وراء سرديات الرواية، ولا يظهر في ذهن القارئ إلاّ إذا ابتعدَ عن الرواية وعاد إلى غلافها الخارجي. رغم هذه المسافة، فإنّ هذا الراوي الأصلي يحرّك الأحداث وينطق الأشخاص من دواخلهم، وكأنه يتكلم لغتهم ويعيش وجعهم. الراوي منصهر في الحكاية إلى حدّ غياب الفصل بين الحاكي والمحكيّ، يدرك بواطن النفوس وسرائر شخصياته وكأنه ضميرهم المستتر.
أمّا الراوي الثاني، فهو «صديق لأسماء يوسف» البطلة الحقيقية، هي الأنثى الغجرية. هذا الراوي يرسل روايته لأسماء لقراءتها ثم يسافر. وهكذا يبتعد الراوي الثاني ليفسح الركح لأسماء ترقص فيه رقصتها المتفردة. وفي غياب الرواة، يحلو الفضاء أمام أسماء. إنّ ما تبحث عنه أسماء فعلا هو رحيل الرواة جميعا، تريد أن تكتب روايتها هي وتكف عن قراءة جميع الروايات.
كيف يكتب الغياب حضورا للغياب؟
يغيب راويان؛ بل الرواة جميعا، لأن الرواية يرويها الغياب، وتروي الغياب وجعا وضياعا، يتما وحربا، هلعا وعجزا. لا تكتب أسماء يوسف روايتها؛ بل هي التي تكتبها، فالرواية تكتب من غياب الأمّ، والأمهات، من غياب الأب، والبيت، والأمنيات، تكتب من ضياع وطن وتشرد أهل وضياع الروح وسط شتات الصور والذكريات، وسط اختلاف وتعدد اللغات التي تعلمتها، تعدد الأديان التي عاشرتها، تعدد الأوطان التي سكنتها، وطردتها… الرواية يكتبها جسد يمسك بالحياة، وبالفرح، وبالقلم، وبالملعقة… بذراع واحدة. يطهو بيد واحدة، يستحم، ويرتدي ثوب الفرح بيد واحدة، كيف لهذه الذراع أن تكتب الفرح وذراعها الأخرى أو شقيقتها لا تشاركها إياه؟ ألم يكن في اقتدار الحياة والقدر أن تلهو هذه الذراع مع الأخرى أن تعينها على التخلص من قاذورات الحياة حينا وعلى الرقص والفرح أحيانا؟ كيف سيدرك الجسد اقتداره؟ كيف تترجم هذه اليد نصوصا من لغات مختلفة بيد واحدة، يد ترقن نصوصها بأصابع تشكو الغياب، لكنها تحدث في قلوب القراء والإعلاميين فرحا متساويا، بل زائدا على اللزوم؟ يبدع العجز كمالا، ويرقص الجسد رغم تراكم همومه.
إنّ الفرح لا يتساوى أنطولوجيا، لكن الفرح الحقيقي هو الذي تكتبه فانتازيا رسول محمد رسول روائيا استنادا إلى ذاكرة أسماء يوسف. تتفنن أسماء في كتابة روايتها فتكتبها أحيانا على شكل مونولوغ تخاطب فيه نفسها أو أمهاتها الغائبات وأبيها الطبيب الذي مات على الحدود الكويتية وهو يعالج جرحى الجيش المهزوم.
لقد كتب رسول محمد رسول روايته بحرفية كبيرة، فأمات كلّ الرواة، لتحيا الرواية، رواية أسماء يوسف التي تكتبها بالغياب، بالذاكرة المتوجعة من الرحيل. لقد قصد الراوي رسول محمد رسول الغياب منذ البدء، وانسحب من مشهد السرد ليُنطق أسماء، ليجعل المسكوت ناطقا، والمكبوت متجليا، ليجعل اللغة تكتب صدق الغرائز ومعاناة الإرادة. فأنطقَ الغياب حيثما كان، في الجسد وفي الوطن وفي اللغة؛ بل حيثما كان. تحتفل الرواية بالغياب، وتنتجل حضورا مربكا للغياب نفسه. إنّ أسماء يوسف هي سرّ الرواية، وهي ضميرها المستتر، إنها رواية تتوجع للضياع، وتحتفل بضياع العمر والوطن والجسد.
إرادة منتصرة
توفيت أمها البيولوجية «نعيمة شقرون» عند ولادتها بعد أن قذفتها إلى الحياة، معوّقة بذراع واحدة، ثمّ توفيت أمها الفيزيائيّة «طاهرة»، وهي التي علّمتها كيف تقف على قدمين ناعمتين وأرضعتها حليبها الدافئ، ثمّ توفيت أمها الثقافية «ميري»، التي منحتها مفاتيح العيش بين الناس.
إنّ هذه الأم الثقافية هي التي خلقت في كيانها إرادة اقتدار منتصرة، لا تنظر إلى نفسها على أنها أنثى معوّقة أو «أنثى من الدرجة الثانية». لقد تكيفت أسماء فيزيائيا وإراديا مع إعاقتها، منذ الطفولة ورغم المصاعب. فكانت إرادة اقتدارها تخاطب العجز فيها قائلة: «سأتحداك يا عجزي، أنا ابنة التضحيات، ابنة المعجزات، سأفعل ذلك رغم ضعفي»، وتخاطب نفسها قائلة: «تحدّي العجز في الحمّام». تتحدّى أسماء حادثة اغتصابها عند محاولة تهريبها إلى أوروبا، فتقتل مغتصبها وتهرب باحثة عن إرادة اقتدار جسدانية تسترجع بها عذريتها، فيساهم علاج وهن الخلايا في رتق غشاء بكارتها تلقائيا، رغم أنها كانت قد عاشت آلام فقدها في سرّها.
إنّ عجز أسماء منذ الولادة لا يعود في نظرها إلى بنية أمّها الضعيفة، كما يشدّد على ذلك الأطباء، إنّ عجزها حكاية وطن منهوب، وطن تلوّثت بيئته. إعاقة أسماء هي علامة من علامات الوهن الصحي الذي اجتاح البصرة منذ اندلاع الحرب مع إيران أو قبل ذلك بزمن. وقد يزدحم سجل الحالة المدنية بكائنات بشرية بذراع واحدة، وكائنات أخرى مشوهة جسديا ونفسيا. لذلك لن يكون عجز أسماء إحدى أساطير العراق الكبرى لكنه علامة على واقع صحيّ شوهته الحروب والمدافع.
تشردت كل أوطانها
هي أنثى تشرّدت كلّ أوطانها؛ وطن الولادة، وطن الإقامة الأنطولوجية، وطن الترحال الثقافي لأجل العيش الكريم؛ تقول أسماء: «وطني حرقه الغزاة والمرتزقة وسرق ما تبقى فيه حثالة اللصوص! وطني البيولوجي لم يعد وطنا، نحن جيل بلا أوطان! إناث بلا أوطان بيولوجية، أنا أنثى رحّالة، (…) في ارتحال مستمرّ كغيري من إناث هذا الذي نسميه وطنا محليّا عربيّا» (ص: 48.). تعلن أسماء يوسف انتهاء الأوطان البيولوجية من البصرة إلى بغداد فطنجة، تعيش أسماء يوسف الترحال، ويغتصبها المهرب في سواحل طنجة، لتعود إلى الدار البيضاء، ثمّ تلتقي «منال» المغربية صديقة «جميلة» لتجد لها عملا كمترجمة بالقطاع الخاص. تعيش حياتها ترحالا بين الأوطان، جيئة وذهابا بين الواقع والذاكرة، بين ذكرى الاغتصاب وأمل الالتقاء بحلمها في وطن آخر. بعد لقائها التلفزيوني مع الصحافي «روني»، قد تفتح لها باريس أحضانها، وقد كان الحلم يحدوها لتكون عندها. ربّما ستكون وجهتها المقبلة مزدانة بالحبّ وبالأمومة.
كانت أسماء يوسف روايتها فعلا، كانت جزأها الأول. أمّا جزؤها الثاني فستكتبه أيضا كأنثى غجرية… في وطن آخر… إنّ أنثى غجرية هي أنثى لكل الأوطان.