توليت مساء اليوم 10 جانفي 2023 بفضاء مكتبة الكتاب بموتوالفيل تقديم كتاب الأستاذ عبدالعزيز قاسم “المستمع الأكبر ، مع الزعيم بين أذن الرضى وأذن السخط”. وقد جاء في التقديم بالخصوص مايلي :
كثيرة هي الكتب التي تناولت بالدرس والتحليل حياة الزعيم الحبيب بورقيبة ونضالاته وإنجازاته ورؤاه ومواقفه من العديد من القضايا سواء على الصعيد الوطني أو الإقليمي أو الدولي.
كما لم تخل المكتبة من مؤلّفات سلطت أضواء كاشفة على بورقيبة الإنسان وسبرت أغوار شخصيته المعقدة المتفرّدة ، وإن كانت أقلَّ عددا من المؤلّفات التي محورها بورقيبة المجاهد في سبيل تحرير وطنه ورجل الدولة الفذّ باني تونس الحديثة.
ولعلّ من أهم الكتب التي خصّصت لهذا الجانب من شخصية الزعيم الكتاب الذي ألفه باللغة الفرنسية الأستاذ محمد كرو في شكل حوار مع الحبيب بورقيبة الابن بعنوان “Notre Histoire” وقام بتعريبه الأستاذ محمد عجينة. وعلى الرغم من اتساع مجال الدراسات البورقيبية ، ظلت جوانب في مسيرة الزعيم وشخصية في حاجة إلى إيضاح واستزادة في البحث والتمحيص ومن بينها ما عزم على الإفصاح عنه الأستاذ عبد العزيز قاسم في كتابه “بورقيبة المستمع الأكبر ، مع الزعيم بين أذن الرضى وأذن السخط” وهو بذلك أوّل من يكتب عن رؤية بورقيبة للإذاعة والتلفزة وعن علاقته بهذا الجهاز الخطير والمحوري في منظومة الحكم في عهده ، مستمعا ومشاهدا وموجها ومبرمجا أحيانا، في “محاولة ، على حدّ تعبير الكاتب ، لاستشفاف بقايا العبقرية كما تبلورت في الشوط الثاني من الحكم البورقيبي وفِي تعلق الرجل إلى حد الهوس بإدارة الجزئيات في مجال الإعلام والتثقيف والترفيه”.
ويأتي هذا العمل الذي يخرج عن دائرة المألوف من حيث مضمونه ليسدّ فراغا في الهيستوغرافيا البورقيبية بعد مرور زهاء عشر سنوات على إعلان المؤلف خلال حوار تلفزي عن اعتزامه إصدار كتاب يخصصه لهذا الموضوع…
يشير عبد العزيز قاسم إلى أن هذا العمل يندرج ضمن ما يسمى بالتاريخ الصغير، ولعلّه لم يكن يدري أنّ كتابه يتجاوز بكثير حدود ما رسمه له من مقاصد وغايات إذ هو يهدي الجيل الحاضر والأجيال اللاحقة وثيقة في غاية الأهمية حول مرحلة حاسمة من تاريخ تونس ستكون ، بلا شكّ ، مرجعا للباحثين ولا سيّما المختصين بتاريخ الزمن الراهن. ذلك أن عبد العزيز قاسم سار في كتابه سيرة الراوي (chroniqueur) الذي يدرك في أحيان كثيرة منزلة المؤرخ متّبعا مسارين متضافرين . المسار الأوّل كان فيه راويا لذكرياته شابا يافعا ولِع بالإذاعة فدخلها مذيعا ثم عمل بها رئيسا للقسم الأدبي فمديرا قبل أن يستلم مفاتيح دار شارع الحرية مديرا عاما للإذاعة والتلفزة في مناسبتين، الأولى من 18 ديسمبر 1981 إلى 10 مارس 1983 والثانية من 23 سبتمبر إلى 5 أوت 1985 ، وهو والأستاذ المنصف بن محمود المديران العامان الوحيدان اللذان توليا رئاسة المؤسسة مرتين وبالتعاقب في العهد البوقيبي.
ولما كان الكاتب على صلة مباشرة ومتواترة بالرئيس الذي كثيرا ما كان يخاطبه هاتفيا أو يستدعاه إلى القصر ليعبّر له سواء عن رضاه أو عن سخطه بعد متابعته لبرنامج ما أو ليستفسره في مسألة من المسائل ، فإنه يخبرنا بفحوى هذه الاتصالات التي تدلّ على ما كان يعلّقه الزعيم من بالغ الأهمية على جهاز الإذاعة والتلفزة الذي اتّخذه أداة للحكم ووجد في توظيفه امتدادا لسياسة اعتمدها منذ أيام الكفاح ضدّ الاستعمار وهي سياسة الاتصال المباشر بالشعب.
كما سمح هذا الموقع المهم للأستاذ عبد العزيز قاسم بأن يقيّم العمل الحكومي وبأن يوازن بين المسؤولين ليخلص إلى القول بأن وزراء بورقيبة متفاوتو الكفاءة وقد خبر مستوى البعض منهم ، لا سيّما أولئك الذين كانوا يلهثون وراء الظهور في التلفزة بحثا عن نجومية زائفة وإشباعا لنرجسيتهم المفرطة . ثمّ إنّ المنصب مكّنه من أن يكون شاهدا على وقائع مثيرة كزيارة الزعيم الليبي معمر القذافي لتونس بعد أحداث قفصة في فيفري 1982 فنقلها لنا بأدق جزئياتها وتفاصيلها وبحقائقها المذهلة.
أما المسار الثاني فقد كان فيه الأستاذ عبد العزيز قاسم محلّلا للأحداث، ملقيا الضوء على زوايا معتمة في المشهد السياسي في أواخر الحقبة البورقيبية ومبديا وجهة نظره بشأن جملة من المسائل التي أثارت وما تزال تثير الكثير من الجدل كموقف الزعيم من البداوة أو من القصة والأقصوصة والأدب عموما أو من الدين وخطاب رجاله ، علاوة على ما أسماه الكاتب بـ”العقدة المصرية” لدى بورقيبة ، على خلفية علاقته المتوترة بجمال عبد الناصر. وقد حاول الكاتب وهو يتطرّق إلى هذه المسائل استقراء فكر الرئيس وسيرته ليخلص إلى جملة من الاستنتاجات، عساه أن يساهم في رفع ما استقرّ بشأنها في الأذهان من لَبْس وغموض.
كما سعى الأستاذ عبد العزيز قاسم إلى توضيح ملابسات إعفائه من مهامه كمدير عام للإذاعة والتلفزة في مارس 1983 ، مصححا ما راج بخصوصها من معلومات غير دقيقة . كما حرص على تقديم شهادته بشأن الظروف التي حفّت بإقالة محمد مزالي في 8 جويلية 1986، ولم يكتف بذكر تفاصيل ما اعتبره مؤامرة حاكتها ضدّه البطانة المحيطة بالرئيس نتيجة احتدام معركة الخلافة، بل انتقد الوزير الاول المقال الذي لم يمسك في تقديره “باليد التي مدّتها له وسيلة” أشهرا قبل مغادرته القصبة، فضلا عن “احتكاكه بالإسلاميين باسم السلم الأهلية ، تحت تأثير بعض أطراف المعارضة”.
يتضمّن الكتاب الذي يقع في مائتين وإحدى وتسعين صفحة أربعة وخمسين مقطعا (séquence)، كل مقطع
منها قائم بذاته ، بيد أن هذه المقاطع تتنزّل ضمن سردية مترابطة الحلقات يمتدّ إطارها الزمني من نشأة إذاعة تونس سنة 1938 إلى نهاية العهد البورقيبي تقريبا ويتمدد أحيانا ليشمل عصرنا الحالي عندما يربط المؤلف الماضي بالحاضر في تعرضه إلى المصائب التي عصفت بتونس بعد ” الانتفاضة التي أطاحت بنظام الرئيس بن علي” وكانت سببا ، في رأيه ، في تراجعات نُكبت بها البلاد ….
إنّ هذه السردية التي صيغت بأسلوب أنيق رشيق وبلغة تتّسم بجزالة اللفظ ودقّة التعبير وصدق النبرة هي
في نظري عبارة عن عمل درامي بامتياز جمع بين المأساة والملهاة .هو مأساة الرئيس المثقف المهووس بالتاريخ ولا سيّما بتاريخه والمتفاعل مع كل ما يقع تحت سمعه من بثّ والقائد الرؤيوي الذي بدأ ينزلق نحو القاع لما أضحى ألعوبة بين يدي بطانة السوء، فانتهى معزولا فجر السابع من نوفمبر 1987.وهو ملهاة نظرا إلى ما يزخر به من مواقف هزلية إطارها الإذاعة والتلفزة ومن أبطالها بعض الفاعلين السياسيين الذين قذفت بهم الصدف إلى واجهة الساحة العامة في أواخر الحقبة البورقيبة فتملّكهم الصلف والغرور وأظهروا من النرجسية المرضية من خلال حرصهم على البروز عبر الشاشة الصغيرة ما جعلهم محلّ سخرية وتندّر.
وإذ يبدع عبد العزيز قاسم في مسرحة الوقائع التي عاشها وفي حبك خيوط روايتها ، فإنه يوصّف بدقّة وبمهارة فائقة طبيعة مهامّ المدير العام للإذاعة والتلفزة زمن بورقيبة وإكراهاتها، فموقعه يجعله في تقديري شبيها ، في نواح عديدة ، ببطل التراجيديا الإغريقية، إذ هو يواجه مصيره لوحده ، يغالب الصعاب ويواجه باستبسال وشجاعة التحديّات، الواحد تلو الآخر، وهو يعلم علم اليقين أنّه في نهاية المطاف المسؤول الأوّل عن كل ما يبثّ ، لذلك فهو يتحمّل تبعات أخطاء الآخرين . وهو يدرك أيضا أنّه عرضة للإقالة في كلّ آن وحين لسبب ظاهر أو لسبب خفي ، وأنّه لن يلقى دوما التعاطف والتآزر إذا ما أقيل وأنّ عليه ألا يتفاجأ إذا ما قوبلت جهوده وخدماته بالجحود والجفاء حتى من أقرب المقرّبين إليه وفِي بعض الحالات من أشخاص وثق بهم وعاملهم برفق وسخاء وفتح أمامهم سبل الترقي المهني…