الفقيه والسلطان ، كلاهما يخشى الكِتَاب والكاتب ، يخافان الحبر ، والورق الأبيض – حتى – قبل أن يمتلىء فكرًا وإبداعًا ، يرتعبان من التأمُّل والتفكُّر والنظر بعمقٍ إلى الأشياء ، يكرهان القلم الذي به يسطُر الكاتب ويدوِّن ، حتى الفقيه نفسه صار يكره الآيات القرآنية التي تحضُّ على القراءة والكتابة ، فآية كهذه ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) ، لولا الحياء – إنْ كان هناك خجلٌ حقًّا – لحذفها الفقيه من القرآن ، ولولا الحياء – أيضًا – لأقصى هذه { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{5} } ، على الرغم من أنها مفتتح الوحي ، وأول التنزيل على النبي محمد
ولحذف كل الآيات التي تجعل الإنسان يُعْمِل عقله ، أو تدعو إلى الذهاب نحو الورقة والقلم ، أي التدوين ، وربما آية كهذه في قوله تعالى: ﴿ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [الطور: 41]
تقضُّ مضجع الفقيه ، لأن ” يكتبون ” هنا تعني العلم ، وهو يريد للناس أن يعيشوا في خرافاته وخزعبلاته ومروياته المكذوبة وأحاديثه التي في أغلبها موضوعة أو ضعيفة أو بلا أسانيد ، وتحريفاته وانحيازاته لمذهبٍ ما مُتشدِّد ، ومحمول على النفي والإقصاء والإبعاد والحذف والشطب والتكفير واستحلال الدم
وإذا كانت الكتابة ” صناعة شريفة ” – كما يقول ابن خلدون في مقدمته ، وهي أيضًا ” من خواص الإنسان التي تمَيَّز بها عن الحيوان ” و” تطلع على ما في الضمائر وتتأدَّى بها الأغراض إلى البلد البعيد، فتقضى الحاجات … ، ويطلع بها على العلوم والمعارف وصحف الأولين وما كتبوه من علومهم وأخبارهم ؛ فهي شريفة بهذه الوجوه والمنافع، وخروجُها من الإنسان من القوة إلى الفعل إنما يكون بالتعليم” ، فلماذا يخشاها الفقيه والسلطان ، ويسعيان إلى الحدِّ من حرية أصحابها ، وعدم نشر وانتشار كتبهم ، والاهتمام بها ، ودعمها ، والتوسُّع في صناعتها ، ومُحاربة أدواتها ، حيث يريان الكتاب خطرًا على الأمَّة ، على الرغم من أنه ينيرها ويُرشدها ويؤثِّر في الناس ، أكثر مما يؤثِّر الفقيه والذين معه أو على مذهبه المتزمِّت ، والسلطان يترك الحبل على الغارب للفقيه كي ينكِّل به ، ويستهزىء بما يكتب ، بل يترك كلاب السكك تنهش في لحمه ، وتعرِّض بسيرته إذا كان راحلا ، ولا أحد يفرِّق من أهل الجهل وبداوة العقل الأجرد المتصحر الناشف بين رائدٍ رمزٍ كنجيب محفوظ أو كاتبٍ ناشىءٍ ما زال يتعلَّم ويعي درس الكتابة
يفرح الفقيه وسلطانه بحظر الكاتب الذي يعتبرانه طاعونًا مُعديًا سيفتك بالجميع ، ويحرقان كتبه بالمنع أو المصادرة أو المضايقة أو الحذف أو الشطب