تحية الى نساء تونس قبل 13 اوت وبعده
لم تكن تعلم ان جمالها الأخاذ وقوامها الرشيق وشعرها الاسود المتدلي على ظهرها حقلا ينشر الحبور في نفسها وتفتخر به بين اقرانها ،لم تكن تعلم ان ضحكتها الطفولية البريئة ومرحها الدائم رغم شدتها فى المواقف الصعبة ،لم تكن تعلم أن كل ذلك سيكون سببا لعنة تحل عليها ،فهل اختارت هي أن تكون جميلة رشيقة مرحة فرحة فاتحة أحضانها للحياة .
كانت تعلم ان كلّ شباب قبيلة شارن يتمنون أن تكون سلطانة حوشهم فالكل يعلم فى الدوار أي جمال واناقة لهذه الفتاة، الكل يعلم انها جُبلت على قيم الشهامة والكرم وانها رغم رقتها اكتسبت من الجبال المحيطة بمسكنها ثباتها وشدتها فتعجز كل الرياح على اقتلاعها من تربتها التي منها قدت والتي عاهدت الله على أنها لحضنها ستعود ذات يوم
تعدد الخطاب الذين يطلبون ودها وكانت تتمنع لا رفضا للزواج والاستقرار بل بحثا عن ذلك البطل المغوار الذى رسمته فى خيالها ،ذلك الفارس الذى يستطيع الذود عنها وكبح جماح انطلاقتها ،فهي تدرك أن فورة الشباب تسكنها ولطالما تمنت أن تواصل تعليمها لكن سيدي الباي رغم انه جدها والاستعمار الفرنسي الجاثم على تونس لا يمنحان الحق فى التعليم إلا للرجال من أعيان العائلات الكبرى أما الفتيات فشرف التعليم بعيدا عنهن وقلة منهن من سكان الحاضرة من حظوا بشرف قدوم معلم إلى مسكنهم يلقنهم بعض دروس العربية ويحفظهن ما تيسر من القرآن .
اما هي فهي فتاة ريفية اختارت الجبال مع قبيلتها شارن مسكنا، أسئلة كثيرة كانت تجول بخاطر فضيلة الشارنية تلك الفتاة الجبلية التي تحمل جرتها كل صباح وتلتقي صديقاتها عند عين الماء ،فيتبادلن الضحكات وينشدن بعض الأغنيات وكان لها صوت عذب وكانت تمتعهم بأغنية سوج الحمام وتشير وهي تغنيها إلى تلك الشامة أو بوسة الخال التى زينت خدها فيرددن الفتيات معها :
سوج ها الحمام مات على مباركة
زرقة الوشام و هي صغيرة و عاشقة
كي خرجت اطلْ و تلقى حمّه في المحفل
صغير و عقلو هبلْ و الكلو عْلجلْ الكاملة
كي خرجت تْلبْ تلقى حمّه في العرب
صغيرْ و عقلو ذْهبّ عْلى بنية العرش الغالي
كي خرجت تْشوف تلقى خالها في الصفوفْ
يرشق بالألوف عْلى بنية العرشْ الغالية
ويختمن غنائهن بقهقهات ويحملن جرارهن ويعدن إلى منازلهن .
في يوم وأثناء عودتها صحبة رفيقاتها لمحوا دورية عسكرية فرنسية تقوم بحملة تفتيش تعودوا عليها ،وكانوا في العادة لا يستوقفن النسوة خوفا من ردة فعل قبيلة أولاد شارن، لكن قائد المجموعة الفرنسية وهو ضابط شاب نفخته رياح الشمال الغازية واحتضنته رياح الجنوب الخانعة انتبه إلى جمال فضيلة فمنى النفس بصيد آدمي جميل يؤثث ليله مع قارورة تيبار… فتقدم للحديث معها فدفعته عنها وواصلت طريقها غير آبهة به، لكن فائض القوة تحرك في داخله مع ذكره الذى انتصب ممنيا نفسه بليلة من لياليه الباريسية، فأمر جنوده بإمساكها وهو ما تمّ …
سقطت جرة الماء من يدها وسقط اللحاف الذى يسترها فبقيت عارية إلا من قميص (مريول) مخطط باللونين الأزرق والأبيض زاد في اظهار مفاتنها وهي تقاوم الجنود ولم يبق بيدها اليمنى إلا قطعة حادة من الجرة التي سال ماؤها وكأن طين جبال شارن تحالف معها ،تقدم الضابط اليها محاولا مداعبة شعرها الجميل الذى كان يستره لحافها، فما كان منها إلا ان رفعت ما بقي من الجرة وأصابت به الضابط فى وجهه وفرت هاربة بعد أن سال دم الضابط أمام بهتة من الجنود الحامية له …
ولم تبتعد إلا عشرين خطوة حتى تردد صدى طلقة نارية في جبال شارن الوعرة لتسقط فضيلة تكسوها الدماء وقد أصابتها الطلقة في مقتل .
توعد رجال شارن بالثأر لفضيلة وحاول القائد العسكري لجهة الكاف البحث عن صلح ومعاقبة الضابط الذى ارتكب هذه الجريمة وارتدت نساء تونس مريول فضيلة تعبيرا منهن على تخليد ذكرى هذه البطلة الشارنية التي اختارت الموت على ان يلتهمها ضابط عربيد سكير لا يدرك أن نساء هذه البلاد من طينها تشكلوا ومن ملحها قدوا جبالا شوامخ لا يمنحن ما يمتلكن إلا لمن اختار طريقا إلى قلوبهن قبل اجسادهن .