الكل يعلم جيدا أنّ الحقيقة حقائق والكل يعتقد أنّ ما يراه من زاويته حيث مقعده في مسرح الحياة هو الحقيقة الخالصة بينما ليس هناك في واقع الأمر حقيقة مطلقة بل هي أوجه مختلفة لما نعتقد أنّه الحقيقة .
اذن أعود إلي “شويهات أفكاري”أسرح بها من زاوية مقعدي حيث كنت أجلس في مملكة عزلتي ما يقارب السنة او أقل من ذلك بقليل متخفية عن أعين الفايسبوك الذي خضت معه معارك طاحنة بين اغوائه لي بالعودة إلي جنته المزيفة وبين صمود إرادتي في التعالي عن هذه الجنة المسمومة
نعم غواية وجنة افتراضية تسحر الألباب فينبطح الجميع دون استثناء للإغواء المُبَيت ،هذا يطمح للشهرة وذاك يخطط لكسب الصداقات و العشيقات وتلك تسعى للجنّة في بيت زوجها أو عند الحبيب المخبى تحت رموش الكلمات وتلك تزعم الشعر وذاك يأكد أنّه الروائي الأعظم لولا المؤامرة لنال نوبل…
ياااااه يا الله …
هربت بفتات روحي وقد هتكها الكذب والتزلف والنفاق في هذا الفضاء الذي يحاكي الحياة بعد أن سلبها رونقها وطزاجتها وجعلها بطعم المعلبات الذي يطغى عليه طعم المصبرات الكميائية لحفظ الطز اجة فإذا بها تحوّلها إلي مسرطنة .
في سكون عزلتي استعدت قدراتي علي التمييز بين المجاملة والكذب وما يمكن أن يكون صدقا ، استعدت ايضا حاستي لتذوق الإبداع بعد فقدانها في هذا الفضاء الذي بات كطوفان من كتابات . وذا ما كانت كمية انتاجها تفرحنا فإنّ ما يزعج فيها بالتأكيد هو اختلاط الغث بالسمين فكانت الخدعة.
هدأت فورة غضبي المتوحشة التي كانت تسكنني وتكبر مثل كرة الثلج كلما تجولت في هذه الحياة الافتراضية المزيفة ، لم أكن أدري السبب حينئذ لكن علمت بعد فترة نقاهتي انّي كنت مثل دون كيشوت أحارب طواحين الهواء أو طواحين الهراء والبوز السياسي والفني والانساني عموما وفي زمن الكوفيد الذي زاد الطين بلّة ازدادت الحياة كآبة وحزنا بعد أن فضح الفايسبوك سرّها ونثر “كمُونَّها” هباء.
هدأت فورة عضبي المدمّرة خلال هذه الفترة التي استعدت خلالها عاداتي البدائية أي قبل زمن الفايسبوك فتلذذت بها أيما لذّة .
عدت مخلصة لكل فعل أؤديه خلال يومي سواء قرأت كتابا فلا أفكر في الاعلان عن ذلك في هذا الفضاء أو طبخت أكلا فلا أركض لتصويره ونشر صوره أو أو ….
هنا تحديدا تعمقت في معنى المشاركة الحقيقي .
نعم المشاركة ليست مطلقا نشر صور أكلك أو سيارتك أو منزلك أو حفلات أعياد الميلاد المعَدة خصيصا لتصويرها وتنزيلها علي وسائل التواصل الاجتماعي .
التشارك هو في الواقع الملموس ، التشارك أن تأخذ أكلك وتذهب إلي من تحب وتقاسمه هذا الأكل وان تشتري لباسا او قطع أثاث وتساعد بها من تحب ومن هو ف حاجة لذلك وليس أن تنشر صورا ، مجرد صور فتغيض من لا يملك ثمن عشائه أو حتى ذلك الذي تزعم مقاسمته ما استمتعت به.
تحولت الصور التي كنّا ننشرها تلقائيًا الي أدوات لتدمير الذات البشرية فهذا الذي يفتح صفحات الفايسبوك والانستاڤرام علي هاتف قديم لا يساوي عشرين دينارا وفيه ما يقابل الدينار من “جيڤوات” الانترنيت سيشاهد خلال الساعات القليلة المتاحة له هذه الجنة المزيفة وسيطمع وسيسيل لعابه ويرغب فيها بعد إدراكه أنّها ممكنة ،إذ مالذي ينقصه عن هؤلاء .
وهنا تبدأ المأساة .
مدفوعا بطموحه الي صور الرخاء والمجد والنجومية الهشة والثروة السهلة الموعودة يأتي ذلك الشخص كل شيء لينال هذه الجنة ولكنّه يبلغها وهو غير متمكن من لغتها وأدواتها وهنا تنثال كوارث الجهل والرثاثة في كل شيء لأن الحابل اختلط بالنابل.
أعود إلى “شويهاتي” ثانية ،
هدأت واسترحت وتلذذت الحياة طازجة واستعدت سرّها كما استعدت الرغبة في العمل وعملي هو الكتابة فاصتدمت بحقيقة أنّني لا أستطيع العمل الا بالتواصل ، وأداة التواصل الآن شئت أم أبيت هي الفايس بوك .
بعد محاولات فاشلة للتواصل عبر طرق آخرى اكتشفت أنّ الساحة الثقافية التونسية تعيش وتقيم في الفايسبوك وها أنا ذا أعود لست مرغمة بالطبع ولكن بنفس ذلك الإحساس الذي ينتاب العائد من عطلة طويلة وممتعة إلي عمل لا ينسجم فيه مع مديره وزملائه.
هناك مرارة ما في الحلق ساكنة، بعد أن تأكدت أن ليس كل من هو زميل صديق ،
ولكن علينا مواصلة الطريق بكل ما يجدّ فيه من مطبات وعراقيل ومؤمرات صغيرة ، علينا أن نواصل قدما حتى لو انّنا اكتشفنا خلال هذه الهدنة انّ من كنا نعتقد أنّهم أصدقاء لم يفتقدوا غيابنا وانّ مَن لم نكن نهتم بهم فاجؤونا بالسؤال والتوجس للغياب .
الأهم في كل هذه التجربة هو استعادة بوصلة الذات للتميز جيدا بين الغث والسمين وبين الصديق الحقيقي وذاك المزيف المغلف بورق الألمنيوم ذي اللمعان المغشوش.
نعم عدت لأواصل مداورة الحياة المتلونة كالحرباء لنيل متعها حتى لو أنّها غيّرت من أساليبها
وحتى لو أنّ أساليبها الحديثة لم ترق لمزاجنا.
(صورة أمال مختار من التقاط زياد الجزيري)