باريس ـ بعد أن انتهى الشاعر والمترجم التونسي منصور مهني من ترجمة رواية “الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد” للشاعر والروائي المصري أحمد فضل شبلول، إلى اللغة الفرنسية، تعاقدت دار لارمتان بباريس مع المؤلف والمترجم على نشرها ضمن منشوراتها واسعة الانتشار في فرنسا وأوروبا ودول الفرنكفونية
وقد حصلت الرواية مؤخرا على تقدير لجنة تحكيم جائزة العالم العربي في الرواية في دورتها الأولى التي أعلنت نتائجها منذ أسابيع قليلة، ما يدل على أهمية تلك الرواية التي تتحدث عن حياة الفنان التشكيلي المصري الرائد محمود سعيد وعن أعماله الفنية، وهي تعد الأولى عربيا التي تتوقف عند شخصية تشكيلية ذائعة الصيت، ولعل ميلاد محمود سعيد في الإسكندرية وعيشه بها أكثر فترات حياته، أوجد أرضية مشتركة مع الكاتب شبلول سكندري الميلاد والنشأة والحياة، فكان أقرب شعراء المدينة الساحلية إلى روحها وبحرها وتاريخها لدرجة أنه يهدي ديوانه “ويضيع البحر” إلى الإسكندرية ويقول عنها إنها “الحلم، الحضارة، الأمل، الإشراق”. وهو يهدي روايته “الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد” إلى “سور كورنيش الإسكندرية”، وهو إهداء عجييب في حد ذاته
تتناول رواية “الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد” الساعات الأخيرة في حياة الفنان التشكيلي الرائد محمود سعيد، أثناء لحظات احتضاره في 8 أبريل/نيسان عام 1964، حيث حضر له ملك الموت ليقبض روحه، ولكنهما اتفقا أن يؤجلا فعل الموت لعدد من الساعات يودع فيها الفنان ألوانه وبحره وشطآنه وسماءه في مدينة الإسكندرية التي ولد فيها في 8 أبريل/نيسان عام 1897 وعاش فيها طيلة حياته عدا بعض السنوات القليلة التي قضاها في القاهرة أثناء تعيين والده محمد سعيد باشا رئيسًا لوزراء مصر (1910 1914)، وفي باريس أثناء تعلمه فن الرسم، وبعض المدن الأوروبية الأخرى التي كان يرتادها ويزورها لمشاهدة متاحفها وآثارها الفنية المختلفة
وضمن بنود الاتفاق أن يعلِّم الرسامُ ملكَ الموت فنَ الحياة، لذا اختار له الفنانُ اسمَ “مَبهَج”. وبعد خروجه من حجرة المرض بلونها الأبيض إلى عالم الإسكندرية الشاسع بلونه الأزرق، يذهبان إلى مرسم الفنان في شارع سعد زغلول ليشاهد “مَبهج” لوحات الحياة مثل “المستحمة” و”بنات بحري” و”في المرقص”، وأيضا لوحات الموت التي أبدعها الفنان مثل “قبور باكوس” و”السرادق” أو “قارئ القرآن”، ولوحات أخرى لفنانين عالميين آخرين
وتتوالى مشاهد الرواية وفصولها نزولا ابتداء من الرقم 16 إلى الرقم 1 حيث يسلم الفنان روحه لملك الموت الذي لم يستطع تأجيل أجل الفنان لحظة واحدة حسب المشيئة الإلهية
وأثناء لحظات احتضار الفنان تصبح ذاكرته حديدية وينفذُ بصره لما وراء الأشياء وما وراء الزمن، فيتذكر لمحات من حياته وشذرات من أيامه، مع بعض الشخصيات العامة والمؤثرة مثل الملك فاروق والملكة فريدة (ابنة شقيقته) ويتذكر علاقته بثورة 23 يوليو والرئيس جمال عبدالناصر وعضويته في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وحصوله على جائزة الدولة التقديرية للفنون كأول فنان تشكيلي مصري يحصل عليها، ووسام الجمهورية من الطبقة الأولى عام 1960، كما يتذكر حفلات حضرها لعبدالحليم حافظ في الإسكندرية، ويتذكر شخصيات أخرى تعامل معها مثل أمير الشعراء أحمد شوقي، والفنان منير مراد، والمخرج السينمائي محمد كريم، والأديب يوسف السباعي وآخرين. ويرى ما سوف يحدث للإسكندرية مستقبلا باعتبارها مدينة تقع على البحر المتوسط، بعد انهيار جبل أتنا بجزيرة صقلية، وكيف تصدُّ المدينة تسونامي القادم لها من جهة الشمال
كما يتذكر الفنان علاقته بالفنانين التشكيليين محمد ناجي، وسيف وأدهم وانلي وكيف تتلمذا على يديه، وتوقع لهما مستقبلا باهرا في عالم الرسم والتشكيل، ووصفهما له بأنه يشرب هواء الإسكندرية، ويختلط بتراب ترعة المحمودية، ويتعبّد بروحانية غريبة في لذة الشارع المصري، ويطل من أعلى الامتلاك إلى أسفل الفقر ليرسم بنت البلد، وعندما يتكلم يلتقط من الصدق التواضع، ومن الكبرياء النقاء
وغير ذلك من سيرة الشخصيات وسيرة اللوحات التي تراوده أثناء سيره على كورنيش الإسكندرية من الشاطبي وحتى المرسي أبوالعباس حيث ولد في تلك المنطقة الشعبية التي لها طقوسها الروحانية الخاصة، وسوف يموت هناك
كما تظهر له الملكة كليوباترا وتعاتبه أنه لم يرسمها في لوحة شاهقة، ثم تظهر له الملكة شجر الدر وتعاتبه أيضا أنه لم يرسمها مثلما رسم ليوناردو دافنشي لوحة “الموناليزا” فدخلت كل بيت، ثم تظهر له مجموعة من ملكات مصر القديمة، تتقدمهن الملكة مريت نيت أول ملكة حكمت مصر خلال السنوات 2939 2929 قبل الميلاد، وكلهن يرغبن أن يرسمهن الرسام
كما يلتقى الفنان شخصيات روائية ظهرت في أعمال صديقه نجيب محفوظ مثل عيسى الدباغ في “السمان والخريف” ورؤف علوان وسعيد مهران في “اللص والكلاب” وغيرهما
وقد أشار الفنان إلى أن نجيب محفوظ تعلم تذوق الرسم والفن التشكيلي من خلال لوحاته حيث صرح محفوظ قائلا: لقد كان محمود سعيد هو الذي عرفني على عالم الفن التشكيلي، وقد تعرفت على أعماله، ولوحاته مازالت منطبعة في مخيلتي بألوانها مثل “بنات بحري” و”بائع العرقسوس” والكثير من البورتريهات النسائية التي اشتهر بها والتي استطاع فيها أن يجسد الجمال الشعبي، كما لم يفعله أحد من قبله
كان الفنان يظن أن مَبهج من الممكن أن يؤجل ميعاده، ولكن ملك الموت يظهر في الوقت المحدد والمكان المرصود ويلقي الكَلَس الأبيض على وجه الفنان، الذي كان يشك أنه صورة رسمها لنفسه تسير على الكورنيش وصولا إلى مسجد المرسي أبوالعباس، بينما جسده الأصلي ممدد هناك في حجرته بفيلته بجناكليس بالإسكندرية التي تحولت إلى مركز فني يحمل اسمه بعد رحيله عام 1964
أما عن محمود سعيد فهو يعد الفنان التشكيلي الأشهر والأبرز في مصر، ويعتبر أحد الرواد المهمين في مسيرة التشكيل العربي. ولد في الإسكندرية يوم الخميس 8 أبريل عام 1897 وتوفي فيها يوم 8 أبريل عام 1964 عن 67 عاما. كان والده محمد سعيد باشا رئيسا لوزراء مصر مرتين؛ الأولى (1910 1914) قبل الحرب العالمية الأولى، والثانية أثناء ثورة سعد زغلول 1919. وعرف عنه بالوطنية والانتماء. وقد شبّ ابنه الذي سيصبح رساما شهيرا بعد ذلك على تلك الوطنية وهذا الانتماء، فبرع في رسم أبناء الطبقة الشعبية وأبناء الريف ورسم التيمات التي تنتمي إلى الحارة المصرية بعامة والسكندرية بخاصة. لدرجة أن أحد النقاد قال إن “حميدة” بطلة رواية “زقاق المدق” لنجيب محفوظ بملامحها ولون بشرتها وسحر عينيها تكاد تطل من لوحات محمود سعيد، تلقاها عنده بكل أوصافها. بل ذهب البعض إلى القول إن محمود سعيد في الفن التشكيلي يعادل نجيب محفوظ في الرواية، أو أن محمود سعيد هو نجيب محفوظ التشكيلي. ومن الطريف أن الموديل الرئيسي الذي كان يرسمه محمود سعيد في أعمال متعددة امرأة اسمها “حميدة” أيضا
وما لوحته الشهيرة “بنات بحري” سوى تجسيد لهذه العلاقة الحميمة بين الفنان والحارة المصرية في الإسكندرية بكل تفاصيلها وألوانها وخطوطها وظلالها وشموسها. وتعد الملاءة اللف السوداء، واليشمك، والخلخال، والمدورة والأساور من العلامات الرئيسية لملابس المرأة “بنت البدل” في ذلك الوقت الذي كان يبدع فيه الفنان
في طفولته تعلم محمود سعيد الرسم على أيادي بعض المدرسين الذي كانوا يأتون إلى فيلا والده بجوار مسجد المرسي أبوالعباس في حي بحري بالإسكندرية، وكان هذا هو دأب العائلات الأرستقراطية في مصر، أن تأتي بمدرسين في الموسيقى والرسم والشعر واللغات والهوايات الأخرى لتعلم أبناء تلك الطبقة الآداب والفنون والإتيكيت كنوع من الثقافة العامة، ولكن أن يلجأ أحد أبناء تلك العائلات إلى امتهان الفن وخاصة الرسم والتمثيل، فيطغى على جوانب حياته، فلم يكن أمرا محبوبا أو مطلوبا لدى تلك العائلات، ولدينا مثال آخر هو الفنان يوسف وهبي. لذا عانى محمود سعيد كثيرا من هذا الأمر، فقد توجه بكليته إلى الرسم والتلوين وحامل اللوحة. فلجأ إلى معلمين أو مدرسين آخرين للتعلم في مراسمهم مثل الإيطالي زانييري، فضلا عن زياراته المتكررة لبعض الدول الأوروبية للتجوال على المتاحف والمراسم في باريس وروما ولندن وغيرها أثناء العطلة الصيفية
تخرج محمود سعيد في مدرسة (كلية) الحقوق الفرنسية بالقاهرة عام 1919. ووافق والده الباشا على سفره إلى باريس ليلتحق بالقسم الحر بأكاديمية جراند شومبير لمدة عام. كما درس في أكاديمية جوليان، ليجمع بين الدراسة والهواية المتدفقة ويعود أكثر حماسا واشتعالا لاستكمال مشروعه الفني بعد أن وضحت معالم الطريق أمامه
لكنه كان يشعر أن الوظيفة التي عُين فيها وتدرج في مراتبها حتى وصل إلى رتبة قاضٍ أو مستشار في وزارة الحقانية (وزارة العدل) تكاد تخنقه، فيعيش الصراع الداخلي بين موظف الدولة الكبير والفنان التشكيلي القدير، وقد تناهى إلى سمعه أنه يجري إعداده ليكون وزيرا للحقانية، خاصة بعد أن تزوج الملك فاروق (ملك مصر والسودان) من ابنة شقيقته صافي ناز ذوالفقار التي لقبت بعد الزواج بالملكة فريدة عام 1938 (والتي ستطلب الطلاق من الملك عام 1948). فما كان منه إلا أن قدم استقالته وهو في الخمسين من عمره (1947)، ليحسم هذا الصراع العنيف، ويتفرغ لفنه ورسمه وألوانه وخطوطه وأفكاره الفنية وأسفاره وعالمه المحبب
عاش محمود سعيد الحياة بكل تفاصيلها وجاب بعض المحافظات المصرية مثل القاهرة ومرسى مطروح والمنصورة وأسوان، كما زار العديد من الدول العربية مثل لبنان والأوروبية، وجمع في أعماله بين الشهوانية والروحانية، فنراه يرسم لوحات عارية، إلى جانب لوحاته الروحانية مثل “الصلاة” و”قبور باكوس” و”الدراويش” و”المقرئ في السرادق” و”الزار أو الذكر” و”دعاء المتعطل” وغيرها، ومن لوحات العارية نجد “الزنجية”، و”المستحمة”، و”فتاة على رأسها منديل”، و”عروس في المركب” وغيرها
ويتوقف المشاهد عند لوحة عظيمة ومحيرة في الوقت نفسه وهي “ذات الجدائل الذهبية” التي أراها كثيرا على أغلفة الكتب والمجلات، وهي تعادل في شهرتها لوحتيه “بنات بحري” و”المدينة”، و”حفل افتتاح قناة السويس”
في تلك اللوحة التي رسمها الفنان عام 1933 حاول أن يصور الجوهر الأنثوي، أو ربة الأنوثة التي لا تشبه أختا لها في عصور ما قبل التاريخ. إن تلك اللوحة ليس مجرد صورة شخصية لامرأة بعينها في مكان وزمان معينين، فهي لا تشبه “إيزيس” أو “هاتور” في مصر القديمة، ولا تشبه ربّات الحسن والجمال عند الإغريق، ولا تشبه “موناليزا” دافنشي، وإنما هي النداهة الشعبية التي التقى بها الفنان من قبل في لوحة “المستحمات”، ولكنها هنا كانت أكثر غواية وحرية من سابقتها
لقد حاول الفنان أن يجعل من “ذات الجدائل الذهبية” موناليزا مصرية أو شرقية، موناليزا الأنوثة والفتنة والغواية، وقد تعددت التفسيرات الخاصة بصاحبة الجدائل، فهناك من قال: “إن سحرها الأسطوري ليس فقط في عينيها الزئبقيتين كعيون الجن، أو في جدائلها المنسدلة على كتفيها كأعمدة برج بابل، ولا في شفتيها المكتنزتين كفلقتي رمانة، ولا في عنقها الذي كبرج للأسلحة، ولا في كتفيها الرابضتين كجيش بألوية، لكن من وراء هذه كله يكمن السحر في ذلك الحضور الزئبقي المخاتل المليء بالصبوات والنداء إلى ملاذ مجهولة، وربما كانت الابتسامة المعسولة الشريرة الغامضة على الشفتين وفي العينين مسئولة عن جزء منه”. وهناك من وصفها بأنها “أميرة الإسكندرية، ابنه الصياد، ذات الجدائل التي أحرقتها الشمس وحولتها إلى لون الذهب مثلما لفحت البشرة بلفحة نحاسية”
أما المترجم منصور مهني فهو تونسي الجنسية والمولد وهو أستاذ متميز بجامعة تونس المنار، اختصاص آداب فرنسية وفرنكوفونية، وهو أيضا باحث وكاتب (شعرا وسردا وفكرا) ومترجم ورجل إعلام