بالنهاية أبدأ مع صعوبة التمييز بين البداية والنهاية، ولأن كل نهاية هي في الآن نفسه بداية. أذكر طرفة لأحد الأصدقاء كان يخبرني مازحا بأنه يقرأ الرسائل التي ترده من آخرها. وحكمته في ذلك بأن الخاتمة تدل على أولها. فإذا كانت الخاتمة ودية وجميلة أكمل القراءة، وخلاف ذلك ألقى بها في سلة المهملات. رحلت أمي التسعينية أم التسعة أبناء عن هذه الدنيا كما رحل الكثير من قبلها، وكما سنرحل بعدها. الخاتمة كانت إحتفالا بعيد ميلادها التاسع والثمانين بمشاركة الأولاد والأحفاد وأبنائهم، وكانت الخاتمة جميلة بلسانها الذاكر لله وبصبرها على الإبتلاء، وبفرصة أهدتها لكل الأهل من أجل خدمتها وجمع ما أمكن لهم من الحسنات. بتتالي وتدرج الصدمات تعززت قدرتنا على تقبل خبر وفاتها. كنت أشكر الله وأحمده مستشعرا رحمة الله بنا ومتفهما ومتقبلا بقلب مؤمن بأن في يوم من الأيام ستنطفئ الشمعة التي تضيء بيتنا
في أول عودة لي من مسقط رأسي إلى تونس العاصمة بعد وفاة أمي رحمها الله، تذكرت أنه كانت لي أما تضل ساهرة تنتظر مكالمة للإطمئنان على وصولنا. شردت للحظات ثم أدركت بأن الدنيا تغيرت. أعدت التركيز وفكرت فوجدت الحل في إرسال رسالة لمن رأيته قريبا لقلبي أو ربما لدوره المحوري عائليا مطمئنا إياه ومخبره عن وصولنا بسلام، وهكذا أحسست باستمرارية الحياة وبالوفاء للعادات والتقاليد. في آخر وعكة صحية لوالدتي، وأنا في طريقي لزيارتها، أوقفتني فرقة من الحرس الوطني وخاطبني أحد الأعوان بصوت حازم عن سرعتي التي بلغت الأربعة والسبعين. أجبته جادا في استفساري إن كان ذلك فعلا أمرا معيبا أو خطيرا. فشرح لي بان هنالك علامة منع تحدد السرعة بخمسين كلم في الساعة. عندئذ أدركت أني مخطئ ، فاعتذرت وقلت له صراحة بأن والدتي دخلت المصحة بصورة عاجلة، وبأني أقود السيارة في غفلة وتجاهل غير متعمد لكل العلامات المرورية تقريبا. بدأ التعاطف على وجهه وبنبرة ودية للغاية تخيلت منها صداقة لا علم لي بها، قال لي ” ربي معك … ساعد روحك … تفضل أوراقك “. تلك هي بركات الوالدة رحمها الله والوجه الطيب لكل تونسي عند الشدائد. كم دفعت من الخطايا سابقا بسبب تجاوز السرعة المرورية المحددة، لكن بمجرد ذكري لأمي سقط القانون
أمي وأتوقع الشيء نفسه من كل الأمهات تلك الكائنات العجيبة التي لديها القدرة على الإطاحة بالقوانين، بل أكثر من ذلك فهي قادرة بقوة قادر حتى على ملىء حسابي البنكي من حيث لا أدري. كلما أنفقت أو أعطيت مالا لوالدتي إلا ودخلت حسابي أموال غير متوقعة، ورافقتني بركة عجيبة عند الإنفاق، تلك هي دعوة امي ” يجعلك أنت تمدّ والملائكة تردّ “
خواطر صغيرة ومختصرة عن الأم لأني مهما كتبت لن أوفيها حقها. كيف وهي التي تتقمص كل الأدوار، حتى المتناقضة أحيانا، في دور واحد إسمه ” الأم” !
هي التي تحمل الجنين في بطنها، ثم تلده بعذاب وصبر الأمهات، ثم ترضعه وتطعمه حتى يشتد عوده. هي الطبيبة والممرضة والمتخصصة في الإسعافات الأولية وساهرة الليالي مع أبنائها كلما كان ذلك لزاما. هي المدرسة والمعدّة النفسية والأخصائية الاجتماعية والطباخة الماهرة والشغالة التي لا حقّ لها في راحة يومية أو إجازة أسبوعية أو سنوية.
هي موظفة الصيانة في البيت والمطالبة بإصلاح الأعطال أو تصعيد الأمر ومتابعته مع الأب. هي المسؤولة الاولى عن تشغيل كل الأنظمة في البيت ومراقبة حسن سيرها. مطالبة بعمليات المراقبة صباحا وليلا وخصوصا قبل النوم شاملة النور الكهربائي والغاز والماء والأبواب والمكيفات ان توفرت وكل التجهيزات المنزلية.
هي المسؤولة عن نقل الأولاد من وإلى المدرسة كليا أو جزئيا، وهي الناطق الرسمي باسم الأسرة والمسؤولة على التواصل مع المدرسين والأساتذة والعلاقات العامة. اذا كان لديها مسنين في العائلة سواء والديها أو والدي زوجها فمن واجبها أيضا رعاية المسنين والعناية الخاصة بهم بصبر ومسؤولية. في القرى والأرياف تضاف للأمهات مهام فلاحية متنوعة تشمل الزرع والسقي والحصاد وتربية الدواجن والماشية أو الأبقار وما يرافق ذلك من أعمال مجهدة بدنيا. وأحيانا تكون الزوجة شريكا فاعلا ورئيسيا في عمل الزوج ومهنته إذا كان مثلا نساجا أو بحارا أو تاجرا. أما في المدينة، فيكفي تحمل أعباء التنقل اليومي للعمل يوميا لان هذا في حد ذاته معاناة. جميع ما ذكرته من مهام هو في أحسن الحالات والسيناريوهات، وأترك لكم المجال مفتوحا للخيال ولتوقع مسؤوليات الأمهات اللاتي يتحملن مسؤوليات هامة ولهن أدوار قيادية في عملهن أو وظائف دقيقة ونادرة، أو ما يحدث عند الصعوبات او التعقيدات الإجتماعية أو المهنية.
لهذا ، ليس مستغربا ما حضيت به الأمهات من مكانة خاصة في كل الأديان والثقافات، وفي كل بقاع الدنيا والحقبات الزمنية المتنوعة. كل الحب لمصانع الحب، وأجمل الدعوات لهن أحياء أو أموات، في عيد الامهات وقبله وبعده.