الحديث عن يسار عربي جديد حاليا يستوجب إعادة صياغة بعض المفاهيم والتصورات اللازمة لإعادة بناء نهضة عربية جديدة تقوم على مكتسبات فلسفة النهضة وتطور مرتكزات انتماءاتنا الحضارية وتجذّر ملتزمات تحديث أنماط حياتنا وتأقلمها مع مستجدات الفكر المعاصر. فلابد إذن من تفكيك المعقولية العربية الحالية ونقدها نقدا جذريا. فالمتصفح في معطياتها كما تتوظف اليوم في المجالات الحياتية العامة يلاحظ من أول وهلة الشرخ العميق الذي يسكنها. فمن ناحية تتقبل هذه المعقولية كل ما يرد عليها من تكنولوجيات متتطورة ولكنها وفي الآن نفسه ترفض كل ما يجعل هذه التكنولوجيات ممكنة ونعني الحداثة ومستتبعاتها. في تمظهراتها العلمية والاجتماعيّة. وقد يزداد هذا الشرخ عمقا عندما نعرف أن مرجعية هذه المعقولية تبقى دائما متأصلة في السلف بينما هي تحاول استيعاب نتائج العلوم والتكنولوجيا فتكون بذلك مستهلكة غير مبدعة في هذا الشأن، بل غير قادرة على الحضور في العالم.. مازلنا نتعامل مع قضايانا بواسطة الغضب والانفعال وأحيانا بالعنف العشوائي بدون ترو وبدون نقد وتنظير واستشراف وتحاور. فمعقوليتنا ليست معقولية التحليل، والبحث، والدرس والتحقيق والنقد وبالتالي فهي ليست معقولية الإبداع والابتكارات العلمية والاكتشافات التكنولوجية. مازلنا تحت وطأة التكفير والتحريم.
ما العمل إذن إذا ما أردنا لهذه الربوع وضعا مغايرا يجنح نحو التقدم العلمي والتكنولوجي في تناغم مع التقدم المجتمعي والفكري ؟ وبالأحرى كيف تكون ملامح اليسار العربي الجديد ؟
لعلنا هنا نستطيع تقديم مقترح باقتضاب لإجابة ممكنة من خلال تصورات متجددة يجب استئناف البحث فيها تحت معطيات حياتنا اليومية وواقعنا المتأزم.
1- وأول هذه التصورات تهم مسالة الحرية بالذّات من حيث هي ركيزة أولية وضرورية لكل تقدم ممكن. ومقاربة هذه المسألة لا تكون مجدية إلا إذا كانت مقاربة جدلية مفتوحة مرتبطة بمفاهيم مجاورة كالمسؤولية، والقرار والفردية والتعايش والغيرية وغيرها من مفاهيم أساسية تجعل من الحرية شبكة معقدة من التصورات والممارسات. إلا أن المقاربة النظرية للحرية لا تكفي باعتبارها أيضا ممارسة في الأساس على المستوى الوجودي والاجتماعي يجب أن ترافق كل تفكير فيها وكل تنظير وتأسيس لها. فالتفاعل الحقيقي بين مفهوم الحرية وممارستها داخل كل طيات المجتمع هو الذي يعطيها ايجابية قصوى ويجعلها تسكن بسهولة كل مجتمع ممكن.
2- أما التصور الثاني الذي ينبني عليه فكر التقدم يتمثل في بروز “المدني” وتركيز شرعيته المطلقة على المجتمع وفي حقيقة الأمر، فان مبدأ الحرية في كل شيء، في الدين والأدب والفكر والصناعة والسياسة والمجتمع، يقودنا أساسا إلى تصور المدني من حيث هو نتيجة حتمية لتفاعل شائك بين الفردانية والاجتماعية، حيث لن يضمحل الفرد داخل مستلزمات المجتمع السياسية، ولن يغيب الوجود الاجتماعي المشترك عن الفعل الفردي والحق الإنساني.
3- أما التصور الثالث الذي قد يركز فكرة التقدم في الحياة الاجتماعية العربية ألخصه في تصّور التعقّليّة. تكون التعقليّة تمشيا في الحياة يأخذ العقل ركيزة لأعماله فينفتح على النظر والعمل والإحساس والأخلاق. لذلك يجب أن تكون التعقليّة متجذرة في حياتنا اليومية وفي معاملاتنا المختلفة على كل المستويات.
4- وأخيرا يكمن التصور الرابع في علاقتنا بالآخر. سيكون تحديدنا للغيرية في علاقة جدل مع الهوية ومع الهوهو وسيقتضي هذا التحديد تفكيرا خاصا في معضلة الغير ومفارقات العلاقة بالآخر.
هكذا يرتبط إذن مفهوم اليسار العربي الجديد في تصوّرنا بمفاهيم الإنماء والتطور والتحديث والغيرية ويكون ذلك بتجذير تصوّر الحرية في مجتمعاتنا وهيمنة المدني على السياسي وتركيز تواصلية بين أفراد المجتمع تقوم على التعقل واحترام الآخر وقبول المختلف. تلك هي قيم العيش المشترك.