تجلس فوزية ضيف الله في لوحاتها بين شخوصها التي تحاول أن تتحدّى ألوانها البدوية الصحراوية المزركشة كي تتحدّث بإسهاب.. هي تجلس وتريد أن تسمع وتنسى أنّ الخطوط التي قدّت منها خيالات تلكم الشخوص ناطقة بأغرب ما يمكن أن ينطق به المرء: وهو أن يصمت. الأشكال في لوحاتها كالأرحام تحوي من وُلد ولم يَلد ومن كان حمْله قدريّا عليه أن يسوّي المضغة علقة والعلقة شكلا متعرّجا يَخشى أن يتبع ظلّه أو يتبعَه استواؤُه عندما يكون النور خطا عموديا في منتصف الألوان.
في لحظة من لحظات الصمت التي تسعى بالرسامة، ضيفة الله، إلى خلق ما به تتحدّث.. يتفكّك المشهد من كليانيِّه ويصبح مجزّءا مثل خطوط بَخور ترك جوهره يحترق ليثبت ولو عرضا كيف أنّه مضمّخ بالذكاء.. حين يلتقيه أنف غريب يسكر بالعنبر. ويتفكّك المشهد كما تتفكّك الجُملة التي تُريد قبل أن تركّبها لتصبح كلاما دالا أن ترى مكوّناتها.. لكنّها حين تعود إلى التأليف يضيع نظامها الأول.. فتنسى الكلام الذي حمّلته أوّل مرّة وتعيش غريبة في برزخ بين الذهن واللسان..
من الأشكال تخرج الألوان لوحدها متحرّرة لتعبّر لكنّها لا تقول غير ما تريد أن تقوله أبعادها ومن الألوان تخرج نقاطٌ كانت من قبلُ رؤوسا لأناسيّ مشخّصة.. لكنّ الهويّات القديمة تأبى أن تفصح ما بعديّا عمّا كانت.. لا تنكُّرا بل كرها لأيّ تذكّر..
تقول الأشكال لألوانها التي تلبّست ببعضها وتنكّرت لبعض: أنا نسيت ما تكون يا لوني حين كنّا معا.. دعني في نشوتي الحاضرة مع ألوان الحاضرة.. حين نعود إلى قرية الألوان الرملية المنقلبة إلى ذرّات ضوئيّة تغزو العيون.. سأفصح عن حقيقتي.. تقول ذلك وتعجز عن أن تصف ما كانت وحين تعود إلى لحظتها اللونية الفاقعة تنسى فتصبح باهتة أكثر فأكثر.
الأحمر الذي سئم رمزه الثّوريّ أو العِشقي صار كُرات من الدم تسعى إلى هويتها الأولى لكنّه ليس دم الحياة فلا قيمة في اللوحات للحياة.. وليس دم المَمات فلا معنى لأن تموت وأنت لم تقل وجودَك وليس دم البكارة الأولى، ولا الشرارة الأخيرة في ليلة دفء باردة.. دم الرسم في اللوحة هو دم ينضح في وجه طفلة أخجلتها الكلمة.. تريد أن تقولها فلا تقدر لأنّها نسيت كيف تقول أناها بلوثة الحقيقة.. مرّة أخرى يكاد الأحمر أن ينطق فيستحيل صبغا للحديث الذي بدل أن يقال يلوّن وجنةً كانت – قبل أن ترى الوجود مخيفا- صامتة.
تقرّر فوزية ضيف الله أن تنقل حضورها من عالم المنظورات التي هي منكشفة لكل العالم ومنطمسة أسفا على ذاتها، إلى عالم المجهريّات؛ في هذا العالم أنت لا تسمع الكيانات المتحركة في صخبها بل تراها تتحرك في ملكوت قدريّ مجهريّ ظاهر.. تتحرّك في حيّز زمانيّ زمانه متفتّت ولكنّه يمكن أن يقال بكلّ ما في التجزئة والتذرير من صمت صاخب.. حين تطلّ من منظار المجهر تراك أنت وقد سكنت هناك بحركة وبفعل وبأناة في كوكب لا يتّسع لك لأنّه مطلق من كلّ الأوساع.. لكنّك تسكن في طمأنينة من نسي أنّ له صوتا يريده أن يقول: أقسى العذابات أن يكون لك لافظ ولا تستطيع أن تشغّله .. مهلا، يا صديق اللون المتموّج المتبدّل تحت شعاع مجهريّ.. أقسى العذابات أن يكون لك لافظ لا يفهم ألفاظه كلّ ذي أذن شاردة..
أجمل ما في مجتمع فوزية ضيف الله المفارق أنّ فيه رؤوسا لا تنطق ولكنّها تتكلّم و يُصغى إليها ولكنّها لا تَسمع و تَرى ولكنّها لا تُبصر تريد أن تقول لك فإذا أنت تقول لها وتريدك أن تحدّثها فإذا أنت مشتّت الفكر بين مألوف لم يعد له معنى وغير مألوف لا تجد له معنى.. تجلس واقفا تريد أن تصمت ثمّ تصف فتدرك أنّ الصوت جلّ أن يصفه الصمت.. الصمت ههنا رحلة ماتعة في عالم لا لون وحيدا له ولا شكل فريدا له: هو من كلّ شكل تلوّن ومن كلّ صمت تشكّل إلى أن تعود أدراجك إليك فلا تجدك.. ستكون موجودا في عالم لوحاتها معها تسألها أن تقول وتسألك أن تقول ولكن في النهاية يقال كلّ شيء من غير لافظ.
في 25 . 2. 2024