قصيدة النثر في تونس “الزّوجة السريّة”
كأنّنا أكملنا الحديث حولها، هذه الطّفلة التّائهة بيننا. نكتبها ونقرؤها ونحترس منها ونرفضها ونعشق جمالها ونغامر معها ونخونها ونتغامز عليها ونحلم بها. وإذا سئلنا عنها ننكر معرفتنا بها، كأنّما نخشى غيرة زوجاتنا منها. وها هي تصير الزّوجة والأخت والأمّ والابنة وما نزال نعاملها نفس المعاملة. هل أنّ قدرها أن تعيش معنا في منزلة بين بين؟
قصيدة النّثر، هذه البكر الصّموت، هذه الجدّة الولود، هذه العشيقة المدلّلة، هذه التي قيل لنا إنّها هاجرت إلينا من الغرب وقيل لنا إنّها هاجرت إلينا من تراثنا، وصدّقنا هؤلاء وهؤلاء. لم يكن يشغلنا أمر منشئها ولا كيف تشكّلت ولا كيف ترعرعت. هي بيننا اليوم، سواء كتبناها نحن المشارقة هنا أو كتبناها نحن المغاربة هناك، المهمّ أنّها قاومت العواصف والأوبئة ولم تستسلم للموت كما تنبّأ لها بعضهم في الستّينات من القرن الماضي، وترعرعت وشبّت وحَلَتْ في العين وتخاصم حولها المتخاصمون وقطّع الرّجال أكفّهم وهم ينظرون إليها تتبختر جيئة وذهابا أمام أعينهم غير عابئة بجنونهم الغريزيّ في قتل الأنثى العاتيّة المتعاليّة اللّعوب.
هذا الكلام ليس في مدحها، فهي لا تحبّ المديح. ولكنّه مدخل مثل كلّ المداخل للحديث عنها ومحاولة الاقتراب منها وإثارة للحوار حولها بجدّية دون السّقوط في لعبة الإقصاء، تلك التي طالما غلبت على أغلب ما كتب في قصيدة النثر ولاسيّما عندنا في تونس. لقد مثّلت قصيدة النثر إشكاليّة مضمرة لا نرفعها إلى طاولة النّقاش إلاّ لنزيد في غموضها وعزلتها رغم أنّ واقع الحال يقرّ بأنّ الإشكال الحقيقيّ لا يكمن فيها بل يكمن فينا. فإذا نظرنا إلى ما ينشر من شعر في تونس وجدنا أكثره من رحم قصيدة النثر أو من أرحام بناتها أو أخواتها، ولندلّل على ذلك نعطي بعض التجارب التّونسية المعروفة في هذا الباب ومنها، أحمد القابسي وسوف عبيد وعزوز الجملي ومحمّد المصمولي وهشام بوقمرة وفضيلة الشابي ومحمّد علي اليوسفي وعلي اللّواتي وعبد العزيز الحاجّي ورضا الجلالي وكاظم الثليجاني وشمس الدّين العوني ونور الدّين بالطيّب والطيّب شلبي ومنير هلال و زهرة العبيدي وعبد الفتّاح بن حمّودة وعبد الوهّاب الملوّح وآمال موسى وفاطمة بن محمود ورضا العبيدي وميلاد فائزة وعبير مكّي وجميل عمامي ونادرة الكاملي ويمكن أن أواصل…
أعرف أنّ قصائد النثر الجميلة قليلة، بل قليلة جدّا. ولكنّ هذا لا يمنع من أن ندّعي بأنّ أغلب الشعر الذي يكتب في تونس اليوم هو من قصيدة النثر. غير أنّ الحديث عنها ومناقشة أطروحاتها والتعمّق في جمالياتها والسّؤال عن مسارها ما يزال دون المأمول. وأكاد أزعم أنّ ما كتب حولها عندنا لم يتخطّ الحدود الدنيا من النقد ولم يفتح من مغالقها شيئا، فحتّى تسميتها لمّا تزل قيد الأخذ والعطاء بين مؤيّد لها ومعارض. ولا أستثني هنا كتابات بعض الأكادميين، الذين ألّفوها في الحقيقة لشأن ندواتي ومهرجانيّ فجاءت هذه الكتابات خاوية ومتسرّعة وخالية من الكدّ المعرفيّ فإذا بها تزيد الطّين بلّة كما يقال وإذا بها تحاول سور الحقيقة تحسبه بابها على عبارة الشاعر محمّد الهادي الجزيري.
قصيدة النثر أو الشعر المنثور أو النثر الشعري أو القصيدة بالنّثر أو النثيرة أو القصيدة نثرا أو قل ما شئت… إن هي إلاّ أسماء لهذه الطّفلة التّائهة بيننا والتي نكتبها ونقرؤها ونحترس منها ونرفضها ونعشق جمالها ونغامر معها ونخونها ونتغامز عليها ونحلم بها. وإذا سئلنا عنها ننكر معرفتنا بها، كأنّما نخشى غيرة زوجاتنا منها. وها هي تصير الزّوجة والأخت والأمّ والابنة وما نزال نعاملها نفس المعاملة. هل أنّ قدرها أن تعيش معنا في منزلة بين بين؟ أم أنّه علينا أن نفتح لها أبوابنا وقلوبنا ونوادينا ومهرجاناتنا ونعاملها معاملة تليق بجمالها المغلّف بهذا الغشاوة التي على أعيننا؟