ثلاثة مصائر هاربة من الرفض والتعصّب والعنف
محادثات ما وراء الخير والشر، حتّى لا يكون الانسان ذئبا لأخيه
قدّمت مجموعة سوكي وباتو للانتاج (تونس/فرنسا/بلجيكيا) مسرحية “الانسان ذئب لأخيه” مساء الأحد 24 نوفمبر 2024 بفضاء التياترو، نصّ جوليان ألتنبرجي، تمثيل محممود الكتاري، رافآللا فورينا، بوني الشريكي، وإخراج غريغوار غبريال فنروباز.
يُحيل العنوان على مقولة الفيلسوف البريطاني توماس هوبز “الإنسان ذئب للإنسان” (Homo homini lupus est) ليصف بها طبيعة العلاقة بين البشر، التي جبّلت على الشرّ وحبّ الذات والعدوانية. وقدّمها في مؤلفه “الليفياتون” للإحالة على مفهوم “الدولة التنين”.
لكن كان أول ظهور لهذه العبارة لدى بلوتوس ( Plaute) ، في كوميديا أسيناريا ” Asinaria ” (كوميديا الحمير، حوالي عام 195 ق.م، المجلد الثاني، 495): “عندما لا نعرفه يكون الإنسان ذئباً للإنسان”. يستهدف بلوتوس الخوف من المجهول وليس عنف البشر.
على ركح يقتحمه السواد والفراغ، اضاءة خافتة، طاولتان بحجم مختلف تكون الاولى على جهة اليمين والثانية على اليسار وبينهما مشجب علقت عليه اكسسوارات الشخصيات التي يستدعيها السرد والحكاية في كل مرة . ثلاثة قصص، يتداول ويتناوب على سردها وتشخيصها ثلاثة شخوص، امرأة ورجلان. ثلاثة مصائر : مصير هارب من التعصّب، مصير هارب من العنف ومصير هارب من الرفض.
تحضر الشخصيات، على هيئة مثلث، يتقدّم في كل مرة واحد منهم، يتولى مهمة الراوي ومهمة التشخيص، ثم تستأنف الشخصية الموالية السرد والتشخيص، من نفس النقطة التي توقف عندها السرد. لا يكون السرد متقطعا أو منفصلا عن التجسيد المسرحي، بل يحضر السرد ممسرحا والمسرح مسرودا على وجع يتضاعف وعنف يصرخ وشرّ يستكشف في كل مرة في زاوية من زوايا الركح المظلم وفي ركن من أركان النفس البشرية.
تروي المرأة حكاية العنف الذي امتزج بالأمل الكاذب، وتخطّط للهروب من زوجها “رجل الأمن” الذي صار ضحية قضايا الرعب والقتل، أخضعها لتمارين الرضوخ القهري، زواج توهمت أنه مغمور بالحب ولكنّه مطعون بالوهم والعنف والامتلاك والخوف من الموت في كل لحظة. تترقب الموت كلّما ترقبت قدومه، تجهّز لسفرها وهروبها دون أن تقدر على ذلك فعلا. ولمّا قررت الهروب، أرادت انتظاره، كأنها تريد أن تتحرّر من الذنب الذي حمّلها اياه. لكنها قتلته عندما منعها من الرحيل وعنّفها. لتجد نفسها في زنزانة السجن والعجز عن الفهم. تسكنها قصص المعنفات وتطعنها الذاكرة والكوابيس المرعبة.
يمتزج الفرح بالخوف، الشجاعة بالجبن، الهدوء بالعنف، والحب بالقتل. يزداد الركح غموضا، تتعقد الحكايات الثلاثة وتتشابك. فتجد كلّ حكاية منتهاها في الحكاية الموالية، وتستشعر كل شخصية وجع الآخر في السرد الذي يلتحم بها، يبكيها، يُسقطها على الأرض، ثمّ تستأنف السرد الموجع، ومن السقوط الى النهوض، كأننا نقترب من جوف الخوف ومن بؤرة الشرّ، كأن الشخوص الساردة، تلتحم بالوجع أكثر، التحاما إلى حدّ التطابق. فلا يكون تغيير الاكسسوارات الدالة على تبدّل الأدوار، مجرّد استعارة خارجية، بل هي “لحم سردي”، يتشعّب ويتسّلل الى شرايين الشخصية على هيئة “شراب سحري”، يحمل المتفرّج مباشرة الى قصّة مغايرة. لذلك لا نستشعر رتابة في السرد، ولا نفرق بين الرواة جميعا وبين الشخوص المتناوبة على التشخيص.
يروي شخص ثان، قصّة هروبه من “التعصّب”، يصوّر مشاهد رعبه وامتعاضه من “جلد النساء” ومن قصص الارهاب والاسلامين المتطرفين. يروي معاناته لأجل أن يجد منفذا للهروب. يبحث عن الحرية بعيدا عن كلّ أشكال التطرّف التي مازلت تريد تطبيق “قوانين الخلافة”، وتنادي بتطبيق الشريعة وتعنيف النساء وارتداء النقاب وغيره. تخطّط هذه الشخصية “العربية” الى الانتقام هروبا، تركب قوارب الموت، تشق عباب البحر، تندفع نحو المجهول، وتتفاجئ بتغلغل الشرّ حيثما ارتحل. فحتى في عمق البحر، وأمام هول الأخطار المحدقة، تتفاقم الأنانية والحقد والشرّ. ويموت في طريقه “غرقا” وهو يسبح نحو حلم الحريّة.
أمّا الشخصية الثالثة، فهي قصّة هاربة من الرفض، تبحث عن مكان تُحترم فيه الاختلافات. فترتحل من قريتها الهادئة إلى عاصمة، تغزوها الموسيقى والملاهي والمغامرات. يغيّر شغله من نادل بمقهى بسيط إلى عامل بملهى ليلي. يندفع نحو الحياة والحبّ والمغامرات والمخدّرات. لكنّه يجد نفسه في دوامة أخرى. فقد قاده هروبه من “الرفض” نحو عوالم مجهولة وهو ما يعرّضه صحبة رفاقه الى الاصابة بمرض فقدان المناعة المكتسبة. لكنه يأخذ على عاتقه مهمة التعبير عن كل ضحايا الرفض مثله، هم كانوا في نظره ضحايا “الصمت”، والقمع. يجنّد نفسه وكل طاقته للاشتغال مع جمعيات ومنظمات لمعالجة المصابين وحماية الآخرين بنشر الوعي، واطلاق حملات توعية علنية في كل وسائل الاعلام، وفاء لصديقه الذي توفي وفقده للأبد.
إنّ هذه القصص الثلاثة، تتخلّلها، قصص أخرى متضمنة، راوحت بين الحب والعنف، تذكّرنا بما نحن عليه اليوم من صدامات وخلافات. تُذكرنا بضرورة تجاوز “عقدة الشرّ” التي تكلّم عنها الفلاسفة وعلماء النفس وعلماء الاجتماع، لتنفتح نحو معالم جديدة، قادرة على صناعة الأمل رغم استفحال الألم والوجع. لذلك فإنّ المرأة التي سُجنت، تتحرّر وينتصر لها القضاء ،لأنّها ليست قاتلة، بل كانت تبحث عن حريتها، تُدافع عن حقّها في الحياة.
تنبني حياة الانسان على مفارقات، تسيّرها انفعالات وغرائز طبيعية، لكن الطبيعة قد تميل وتفقد توازنها. فالانسان هو استعداد طبيعي نحو الخير والشر. فكما يمكنه أن يكون خيّرا، يُمكنه كذلك أن يكون شريّرا. فما يعدّل هذا التوازن هو منطق العقل والحب، هو التقاء الحبّ بالحكمة، هو حوار الثقافة بالطبيعة. لذلك يحتاج الانسان للفن والحب والثقافة ليُغادر منطق القتل والعنف والأنانية. إذ تشرح فلسفة سبينوزا، ذلك الجهد الذي يبذله الانسان ليكون أو ليصير إنسانا، هو “الكوناتوس” الذي يُعدّل “انفعالات النفس” (ديكارت)، يتجاوز منطقة “الباتوس السالب (أفلاطون) نحو انفعالات موجبة، مشحونة بالحبّ، بالمرح، تأخذ الإنسان نحو الكونية، بعيدا عن صراع الشرّ (بول ريكور) وعن الارادة الارتكاسية (نيتشه) المنغلقة على منطق القطيع لأجل محادثات “ماوراء الخير والشرّ”.
فوزية ضيف الله