روبين بينيت على ركح مهرجان الحمامات الدولي: موسيقى تتجاوز حدود الجغرافيا وتعانق الحرية: روبين بينيت شاعرة جسدا ولحنا وكلمة
في سهرةٍ من سهرات الركح الأثري بمهرجان الحمامات الدولي في دورته الـ59، أطلت “روبين بينيت”، بعينين تتأملان البحر وقدمين ترقصان على وقع الجاز والسول والبلوز. كانت ليلة 3 أوت 2025، ليلة موسيقى وحرية، ليلة مزجت فيها “بينيت” بين روحها الأميركية ونبضها الفرنسي، لتُقدّم عرضًا تتفتّح له الأرواح قبل الآذان.
روبين بينيت، مغنية ومؤلفة أغانٍ أميركية من أصول فرنسية، نشأت في ولاية تينيسي الأميركية، واستقرت لاحقًا في باريس. تحمل في صوتها نبض الجنوب الأميركي، وفي أغانيها روح الفولك والجاز والبلوز، وتمزج بين تقاليدها الموسيقية وتلك التي اكتسبتها في رحلاتها الفنية عبر أوروبا وآسيا. اشتغلت لسنوات على مشروع موسيقي عابر للحدود، تعتبر فيه الموسيقى وسيلتها للتعبير، وللتواصل، وللتحرر.
لم تكن الموسيقى في تلك الليلة مجرد أنغام، بل كانت رحلة عبور، عبور من ضجيج العالم إلى سكينة الذات، من قيود الجغرافيا إلى أفق الحلم، من الجسد إلى الرّوح. أطلت “روبين” كمن يعرف الطريق، تحاور جمهورها بعينيها، بجسدها، بصوتها الذي يتنقل بخفة بين اللغة الفرنسية والإنقليزية، وبين دفء الجاز وانفعال الروك.
إنها فنانة تعيش الموسيقى، تحسّ اللحن والكلمة، وتعزفهما بجسدها ومشاعرها، تلقائية في حضورها، صادقة في غنائها، آسرة في سردها لقصص أغانيها. لا تفصل بين الأداء والحياة، بين الفن والكينونة، كأن المسرح امتداد لذاتها.
فرقتها كانت مرآة موسيقية لوهجها، لا شيء زائد، لا شيء ناقص، فقط تدفّق نقي، كل آلة تعرف متى تتكلم، ومتى تصمت، حتى بدا كل مقطع كأنه مشهد من عرض مسرحي حيّ.
أغاني مثل “Higher Ground” و”Too Hot” و”Little Pieces of You” لم تكن سوى محطات في هذا الطواف الفني، أما “She” فكانت لحظة خفوت، لحظة شعرية، تباطأ فيها الزمن، وأطلّت الذات على ذاتها. ثم اشتعلت المدارج مجدداً مع “OK All Right” و”Fight Song”، لتختتم العرض برائحة الحياة، وتوق الإنسان إلى أن يحب، أن يحيا، أن يرقص.لقد غنت، للمرأة العاشقة، للمرأة المكافحة، للحياة، وكان جسدها يقول شعرا يرافق حركات الايقاع وعمق المعنى.
كان الجمهور شريكًا أصيلاً في العرض، لا متفرجًا فقط. تمايل، صفق، غنّى، ووقف أكثر من مرة احترامًا وانبهارًا. واختلطت الهتافات بلغاتٍ عدة، كأن الركح صار فضاءً مشتركًا بين قلوب لا تعرف الحدود. لقد حرّر الفن الأجساد وأيقظ الأحاسيس.
وعندما غادرت الركح، لم يغادر دفء صوتها القلوب، إذ طالبتها الجماهير بالمزيد، فلبّت النداء، وكأن العرض لم يكن مجرد حفل، بل طقسا احتفاليا جمع بين المسرح والموسيقى والرقص والبوح.
روبين بينيت لم تقدم عرضًا، بل قدّمت رؤيتها للعالم: الموسيقى كتواصل، كعلاج، كفعل مقاومة. جعلتنا نؤمن – ولو مؤقتاً – أن الفن ما يزال قادراً على منحنا معنى، على أن ينتشلنا من عتمات الحياة.
أما مهرجان الحمامات، فقد قدّم مرة أخرى درسا في كيف يكون الفعل الثقافي جسرا بين الشعوب، وكيف يكون الفن مرآة الإنسان في أعمق لحظاته.
هذا الركح، الذي احتضن أسماء كبيرة على مر العقود، بدا في تلك الليلة أكثر شباباً، أكثر بهجة، كأنما “روبين بينيت” جاءت لتذكّرنا: أن الفن هو تجربة نعيشها احساسا روحيا عميقا وليس مجرد لقب نضيفه لأسمائنا.
ريم خليفة
الحمامات، 03 أوت 2025