أي مصير لأيام قرطاج السينمائية أمام السينما الرقمية؟
فوزية ضيف الله
أكاديمية وباحثة ناقدة بنظريات الابداع
لا ينبع هذا السؤال مني، ولكنه أقلقني. إنه سؤال سمعت صداه بين جدران إحدى قاعات السينما بالعاصمة، بمناسبة الدورة المنقضية لأيام قرطاج السينمائية. ليس هذا السؤال مهمّا من جهة تحويله لوجهة السؤال، من …إلى. ولكنه مهم لأنه يظل بلا جواب، كما تظل السينما الرقمية رضيعا جديدا يقتات من حليب مدرار.
سمعت هذا السؤال، فبقي عالقا بذاكرتي، بلا مجاملات. جاء السؤال واضحا، عاريا من المجاز، بسيط حد الألفة، عميق حدّ التيه. ولكن الذي طرح هذا السؤال، هو شاب مغروم بالسينما منذ زمن، يشتغل مهندسا، اختصاصه علمي، ولكنه منفتح على فنون الفرجة باختلافها. ربما تبادر لذهني مرة أن أقول: لم لا نشاهد السينما في بيوتنا، نواكب الأفلام، نواكب أيام قرطاج السينمائية، رقميا، نغادر صخب القاعات، وبروتوكولات النجومية والسجاد. ندعي بيننا وبين أنفسنا، أننا شعب، له طقوسه الخاصة جدا في الفرجة، فهل تقتضي السينما عزلة وحميمية ؟ ومن قال أن العالم الرقمي على غاية من الجمال الى الحدّ الذي تصير معه الفرجة أفضل من الاتجاه نحو القاعات. سوف ندعي أننا في زمن آخر، صارت فيه السينما مدرارة، مجانية، لا ينقطع مدها، مثل انقطاعات الماء المتكررة. نشغلها حيثما كنا، في المطبخ والسيارة، وفي صالونات التجميل والمقاهي، وحتى في بيوت الاستحمام. يمكننا أن نتوقف، الزمن الذي نريد، نتحكم في الفيلم، نقدّمه، نسرّعه، نعيد مشاهدته على المنصات الرقمية، كلما أردنا. فهل في ذلك نكهة؟ هل أن عشاق أيام قرطاج السينمائية، سوف تنطلي عليهم حيلة الرقميات العجيبة، وهل ثمة عجب أكبر من أعجوبة ال JCC ؟
ليس هذا السؤال ثقيلا، لكنه يصطنع ملاذا يحتمي فيه من الاجابة؟ ذلك أن الأم لا يمكن أن تغار من وليدها، مهما ازداد جمالا، وهو الذي من صلبها، ينشق عنها، يعلّمها العيش وفق ما تمليه العصرنة والرقمنة والعولمة. تلك هي السينما الرقمية، سحابة صيف، اكتسحت طقس السينما، تراءى لها أن الخيوط العنكبوتية يمكنها أن تعوض خيوط العشق الأولى.
لا أدعي أنني متضلعة بالسينما وضواحيها، لكنني أحللها وأقرؤها كما أقرأ علامات الطريق، بكل حذر. إن الطريق الذي تملأه العلامات هو الطريق نفسه الذي تخترقه التجاوزات والمغامرات. وكذلك هو طريق السينما، طريق يستعمله المتعلمون، وقد يبتدعه العصاميون، وعندما يكتمل الطريق تأتي الرقمة لتُحول ابداع البدايات الى مسالك الرقميات. فمن يُمسك بالرقمة، ينحني أمام العلامات، ليجعلها في صفّه، في حين أن المبدع والمتفرج الحقيقي، سوف يغادر شروط اللعبة الرقمية، عندما يُصيبه الملل، لأن الفرجة فرجات، والتقبل لا يكون فرديا بل على شاشات يشاركك اياها عالم حي، في تجربة حية، تنطلق من الملموس والمعاش.
سمعت هذا السؤال يتكرر مرات، في قاعات العرض، وظل الصوت عالقا بلحمي. فما أنهك السمع ليس السؤال نفسه، بل صداه في جسدي. تعلمت مع نيتشه أن الفرجة والفنون هي عوالم تُقرأ عضويا، وتعلمت مع دلوز أن السينما، ابداع متحرك، ينبني على مفهوم للحركة وللصورة. يشتعل العالم على الفحم، ولكن أيام قرطاج، بنكهة المقاومة، بنكهة سينما الجنوب، توزّع علينا متعة النار المتراكمة في كؤوس الفرجة الحية، ان السينما الرقمية، لا تقتل الاحساس بالحياة التي نشاركها مع الآخر لحما، فينومينولوجيا، لكنها تقتل فينا الاحساس بتلاشي العالم. ثمة فرق بين احتفالية JCC في طقوسها المراوحة بين الأخذ والرد، واحتفالية الفرد الذي يشاهد فيلما يتحكم فيه بالزرّ الذي أمامه. ثمة ولَهٌ بالصورة، يصبح أعظم في زمن أيام قرطاج، حشود الفرجة تُحوّل السينما إلى جوقة راقصة، تتراقص فيها الألوان والأجساد والنظرات والقراءات. لا يمكن للفرجة الحقيقية أن تتنازل عما اكتسبه، ولا أن تضحي بما أسسه المؤسسون، فيتذوق المشاهد المتيم بالسينما، حشدية الفرجة، حركية الصفوف، فوضوية الأصوات، يُلامس الصوت والصورة، يُلامس الممثلين، وكأن ما يحف بأيام قرطاج السينمائية من تجليات التمظهر الجسداني للفن، هو ما يجعل النكهة أعمق وأحلى. وكل ما يتم نقده، فيها هو ما به تقوّم.
فمن هم عشّاق السينما؟ إنهم عشاق الحياة. فنحن نذهب للسينما لأننا نحب الحياة. ذلك يعني أن السينما لا يجب أن تأتي إلينا بل نحن من يذهب إليها، فنكهتها كامنة في مفهوم “الذهاب” وليس في مفهوم “الاياب”، هي تحملنا نحوها، لذلك فإن حصرها في رقمنة، هو جعلها عندنا، فكل ما نحصل عليه لا نفتقدهوكل ما يبتعد عنا نلاحقه. لذلك فأن تكتفي بمشاهدة الرؤقميات، فذلك معناه أنك اختزلت مفهوم الحياة في سكون الفرجة. تتوافق الفرجة مع حركية الصورة و زمانية الفرجة. يعني أن المشاهدة هي ممارسة حية، معيشية، تُجلي الجميل في جعله معاصرا لكل لحظة مشاهدة. فالمشاهدة الرقمية هي مشاهدة بلا روح، لأنك تشاهذها دون مشاركتها مع العالم، مع الآخر.
ان الفرجة هي “حدوث”، لذلك ترتبط المشاهدة الحقيقة، بفعل “الذهاب الى”، كأنها سينما المشي، تستلهم مشيها من مشائية الأرسطيين، وجوقة الاغريق وجسدانية الفينومينولجيين.
لقد كانت الفلسفة منشغلة بوضع الحركة في الفكر، لكن كان على السينما أن تضع الحركة في الصورة. في حين أنّه صار محتملا على فيلسوف المستقبل، الفيلسوف الفنان، أن يضع الحركة والفكرة في الرسم تجاوزا للصورة الدزغمائية، اللقطة المضبوطة، نحو الصورة/الحركة، الصورة/الزمان..ربّما استشرافا واستكشافا لقارة الصورة/الادراك وانتقالا من الصورة المنفعلة إلى الصورة الفاعلة.
يمكن للسينما الرقمية أن تكون ظلاّ تستريح فيه شمس السينما الحقيقية، ولكن الظل لا يمكن أن نراه في غياب الشمس. يمكن للرقميات أن تسرّع وتُنشّط من الانتاجية والتوزيع، بحثا عن أسواق عالمية، وتلك مطية لاجل الانتشار والمرئية العالمية. ولكن لا يُمكن لشيخ المهرجانات أن يزول بريقه الا إذا تمادت ضربات العصيان تنخر عمقه وتنهش رأسه. فمسارات تعطيله، تحدث شرخا في نفوس مبدعيه، ومتابعيه، لان الابداع يحتاج دوما إلى إرادة تسييرية عارفة بخصزصيات القطاع فكيف نحكم عليه ونحن خارج مداره. يأتي النكران من قلة العرفان، وتموت الذاكرة أمام عدم القدرة على النسيان. معنى ذلك أننا اذا كنا نحاسب شيخ المهرجانات على هفواته، فنحن نوجه أنفسنا نحو ردمه خارج فاعلية التذكر لماهو أهم أي تاريخه العريق، وجهود مضنية، بذلها المؤسسون.
نحن نراجع ونجادل السؤال عن مصير أيام قرطاج السينمائية أمام الرقميات، ولكني تعبت في الحصول على مراجع تتحدث عن تاريخ هذا المهرجان. لذلك تساءلت، لماذا لم تُوظف الرقميات، لجعل الكتابات المختلفة التي تتحدث عن المهرجان متاحة رقميا أمام العالم؟ فهل ينبغي أن نتكفي بالكتب التي توفرها بعض المكتبات المختصة، ونتحمل فكرة “الذهاب الى” حتى نحصل على ما نريد من المراجع؟ ألا يبدو أن ما ينقص شيخ المهرجانات هو هذا الشحن الفكري والفلسفي؟ لا أعارض مراسم الظهور والاحتفال فتلك مراسم احتفالية، تتعلق بطقوس الفرجة السينمائية، ولكن كيف نقوي عمق التخطيط، كيف نشحن عقول المتابعين والمبدعين بنكهات الفكر الجذل؟
ثمة مرح لا بد أن يحدث، ثمة طفل لا بدّ أن يلعب، ولكن ثمة فكر لا بدّ أن يتمرد على المألوف والمعتاد والساذج. إنّ الرابط بين السينما والفلسفة هو الفكر، والرابط بين السينما في المهرجانات والسينما الرقمية هو شغف الانسان بالحياة، تكون الحياة الرقمية باردة بلا روح، في حين تكون الحياة الحقيقية، متعطرة ببهارات الفرجة الناعمة والحية.
كل المسألة تكمن في كمية الوعي، بالتعايش السلمي لنمطين من الانتاج ومن الفرجة، كما ينبغي توجيه الأمر التوجيه الحسن لتعمّ الفائدة بأضرار خفيفة. لا بد من الاشارة الى وضعية العديد منت قاعات السينما، ليست كلها صالحة للفرجة، في حين أن السينما فن يشترط رفاهة في الجلوس والصوت والصورة. ثمة قاعات اغلقت وأخرى تعود للعمل بعسر. ولعل مثل هذه المشاكل يمكن أن تعكر صفو المشاهدة، وتدفع بالمشاهد الى الاشتراك في مزود سينمائي، على المنصات الرقمية، ليشاهد الفيلم الذي يريد وفق الرفاهية التي يختارها.
ان الحياة الرقمية، غزت كل الفنون، التشكيلية والسينمائيبة والفرجوية إجمالا غزت عالم الكتاب والمطالعة، عالم الصحة والطبخ وكل المهارات الأخرى. لذلك لابدّ من اتقان المرور” من إلى” نحو الفسحة التي تعيد للإنسان مقامه، لينفتح على معالم الحرية والتطور الخلاق، لأن أيام قرطاج السينمائية مشروع أكبر من السينما” ولأن ما خلفه لنا الأديب والسينمائي الطاهر الشريعة أكبر من أن تطمسه رقمنة.