بقلم النوري قرفال
كم هو جميل أن يجمع الإنسان بين التكنولوجيا والعلوم الصحيحة وأي هوايات أخرى في مختلف المجالات والتخصصات الثقافية أو الرياضية على سبيل الذكر لا الحصر. هذا ما اكتشفته عندما تمت دعوتي ومجموعة من الزملاء من قبل خبير الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية لزيارة بعض الأماكن التاريخية في المملكة البريطانية. من قمة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات اصطحبنا المستضيف بكل فخر واعتزاز بتاريخ منطقته لزيارة مدينة المبدع وليم شكسبير (ستراتفورد أبون آفون). شملت الزيارة ثلاثة منازل تم تحويلها لمتاحف عمومية، وتشمل كل من بيت شكسبير وبيت أهله وبيت زوجته. اكتشفت بأن خبير الاتصالات هو أيضا دليل سياحي محترف عندما استظهر بشارته الاحترافية في بوابة الدخول ولم يكن له أن يشتري تذكرة لدخول المتحف. ومما زاد في احترامي له، إضافة لتميزه في اختصاصه التكنولوجي، كان يشرح ويروي لنا، بكل ثقة في النفس واعتزاز بما حصل، كيف انتفضت مجموعة من الحكماء في المملكة المتحدة وجمعت ما يكفي من الأموال لاقتناء جميع مخلفات وليم شكسبير، ومنع اقتنائها وتصديرها خارج الوطن من قبل مجموعة من الأثرياء مولعة وشغوفة بجمع التحف التاريخية والآثار.
رغم أن زيارتي تعود لسنوات مضت إلا أني لا زلت أذكر تلك السجلات الذهبية في مدخل البيت بتوقيع شخصيات عالمية مشهورة وهي تملأ عديد الأدراج، كما بقيت في ذهني صورة الأثاث الذي استخدمه شكسبير منذ كان طفلا، ولا زلت أستشهد بقدرة البريطاني على تحويل التاريخ إلى منتج ثقافي وسياحي يدر مالا وفيرا على البلاد والعباد.
عادت بي هذه الزيارة لسابقاتها من تجوال في متاحف العديد من دول اسكندنافيا أخص بالذكر منها دولتي السويد والنرويج. وأتساءل أحيانا كيف نجح هؤلاء في المحافظة على أثاث وملابس وأواني وهدايا ومخطوطات ومراسلات كل الملوك عبر التاريخ، وأثني على إبداعهم في تخصيص أرقى الأماكن لعرضها بطريقة متميزة تجمع بين جمال الذوق والتوظيف الأنيق للتكنولوجيا.
لماذا عادت بي الذاكرة لهذه الزيارات؟ لأني سمعت منذ أيام مثل كل التونسيين نقاشا وجدلا حول تحف وآثار ومخلفات تاريخية تونسية ستعرض للبيع بالمزاد العلني. لا أظنها الأولى، فقد تعالت قبل ذلك أصوات عالية تنادي بتفويت الدولة في القصور الرئاسية بعضها أو كلها، كما أن المتاحف العالمية تعج آثارا منقولة، وقد لا تكون الأخيرة باعتبار تجارة الآثار والتحف تجارة مربحة، ولأن لكل بلاد مرتزقتها.
إذا، ماذا نحن فاعلون من أجل التصدي لهذا النزيف وحماية تاريخ بلادنا من بيعه بكم هكذا طريقة؟
- الاهتمام في مناهجنا الدراسية بمادة التاريخ، وتغيير طريقة تدريسها بما يعزز فخر التونسيين واعتزازهم بتاريخهم.
- الاهتمام بمتاحفنا وبكل الأماكن التاريخية ويشمل هذا الصيانة الدورية، والحماية الأمنية، وتوظيف التكنولوجيا، وتنظيم الرحلات، وإعداد برامج ثقافية ذات علاقة بالموضوع، وتصوير أشرطة سينمائية قصيرة، وومضات إشهارية، ومسابقات، …
- وضع التشريعات الضرورية والقوانين التي من شأنها حماية آثارنا وتراثنا، ومن ذلك إلزام جميع مسؤولي الدولة بوضع كل الهدايا القيمة التي حصلوا عليها أثناء فترة عملهم على ذمة الدولة على غرار ما هو معمول به في الدول المتحضّرة، ويكون هذا بمفعول رجعي.
- دعم السياحة الثقافية وتشجيع الشباب للاستثمار في هكذا مشاريع.
هذه مجموعة من الأفكار والإجراءات التي يمكن تبنيها والبناء عليها من أجل حماية آثارنا والحفاظ على تاريخنا، وتبقى ثقافة الشعوب وقناعاتها هي الضامن الأكبر للحفاظ على الذاكرة الوطنية. وليعلم الجميع بأن تونس بتاريخها وبجغرافيتها وبكل مؤسساتها الوطنية ذات الرمزية للسيادة التونسية ليست للبيع !