الأستاذ الذي كلما التقيته صدفة إلا وكان الحوار معه ممتعا وشيّقا هو أستاذي لمادة التاريخ والجغرافيا في المرحلة الثانوية. ومع أن تلاميذ الشعب العلمية يولعون عادة بأساتذة الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية بشكل خاص لأهمية المادتين بالنسبة لهم وخضوعا لمنطق الضوارب المعتمدة في احتساب المعدّلات الدراسية، إلا أن بعض أساتذة العلوم الإنسانية نجحو في سلب عقول تلاميذهم وكسب اهتمامهم وشغفهم بما يدرسون من مواد كالفلسفة ومختلف اللغات أو التاريخ والجغرافيا. وأرجّح بأنّ أساس هذا النجاح هو طريقتهم في التدريس ومحاولاتهم إسقاط الأحداث التاريخية على الواقع وربطها به، أو التطرّق إلى الجغرافيا وتأثيراتها الحالية على واقع الشعوب والدول. وبدل السرد المملّ للوقائع التاريخية أو الأحداث وكلّ ما يملك المدرّس من معلومات ثريّة، تتحوّل الحصّة إلى جدل ونقاش مثير وتفاعل خلاق وإيجابي بين التلاميذ في ما بينهم أو مع أستاذهم. وقد أعتبر نفسي محظوظا لأني تتلمذت على أساتذة بمستوى عالي في أغلب المواد وأودّ بالمناسبة التعبير لهم عن شكري وامتناني. العشرات منهم كانو من الفرنسيين وأقرّ شخصيا بدورهم الفعّال في ما حصلنا عليه من ذكاء ثقافي، ومساهمتهم في نشر ثقافة متميزة داخل معهدنا سمتها الانضباط والجدية بالتوازي مع كل المعارف والمهارات التي اكتسبناها بعيدا عن منطق الأعداد والمعدّلات. كيف ولماذا بقي أستاذي للتاريخ والجغرافيا في الذاكرة؟ ربما أحد أهم الأسباب هو العلاقة المتميزة التي جمعتنا به إذ كان يحمّلنا مسؤولية نجاحنا وتميّزنا، ويعاملنا معاملة الكبار، ويشعرنا بالاحترام ، ويشاركنا أفكاره وتجاربه في علاقة بمحور الدرس. أحيانا لم نكن أهلا للمسؤولية فنبادله الإحترام بمشاكسات ومن ثم عقوبات لتنتهي كالعادة بالحصول على عفو منه بعد توددنا واعتذارنا له. كان أستاذنا فخورا بحبه للتجوال وهو الذي نقل عدوى حب التجوال لأغلب تلاميذه. هو أول من حدّثنا عن السدّ العالي في مصر، عن الأهرامات والموميات الفرعونية، وخان الخليلي، والفول المصري، … هو أوّل من حدّثنا عن شمس منتصف الليل في الدول الاسكندنافية وطول النهار فيها صيفا وقصره شتاء. هو أوّل من حدّثنا عن سمفونيات بيتهوفن الشهيرة، وهو أوّل من جعلني أشعر بضعف الإنسان عندما شرح لنا حركة الكواكب في السماء، والسنوات الضوئية التي تفصلنا عنها، والمجرات السماوية وعددها اللامتناهي في الكون!
تأخذني هذه الذكريات الرائعة لأجمل المراحل التعليمية في حياتي، حيث كانت الصداقات تلقائية وبعيدة عن منطق الحسابات، الى مفاهيم تستحق الدراسة والمراجعة مثل علاقة الأستاذ بالتلميذ أو التلاميذ في ما بينهم، والمناهج الدراسية والنوادي المدرسية وعموم السياسة التعليمية الحالية، وصولا إلى أنجع الطرق لإصلاح مجتمعي وتغيير ثقافي يخرج بنا من هذا الوضع المتردّي.
في المرة القبل الأخيرة، جمعتني الصدفة بأستاذي للتاريخ والجغرافيا، وبعد المرور سريعا على أجمل الذكريات، سألته عن اهتماماته السياسية وكانت المفاجأة.
أستاذي لم تعد السياسة ضمن دائرة اهتماماته كما كانت من قبل. أسس في المعهد نادي للورد. نعم، الرهان الثوري والحديث أصبح على الورد لعله يساهم في تحسين ذوق أجيال المستقبل ويستدعيهم للإهتمام بمحيطهم التعليمي ليصبح جميلا بجمال الورد. بصفتي مدمن ورد، أعجبتني الفكرة أكثر مما فاجأتني. فلا أنتظر ممن يتربى على زراعة الورد ورعايته سوى أن يتحدث بذوق، ويلبس بذوق، ويتصرف بذوق، ويصاحب بذوق، وبالتالي لن يكون سوى صاحب ذوق رفيع في كل أقواله وأفعاله. وكما يقول المثل الروسي في علاقة بالورد ” إذا كان قلبك وردة فكل ما يخرج من فمك يكون معطرا ” ولا أشك في أن جمالية القول ستأثر في الفعل.
كم نحن في حاجة إلى مثل هاته النوادي التي تحمّل الأطفال منذ الصغر مسؤولية تجميل مدارسهم ومعاهدهم، وتعوّدهم على العمل الجماعي والتطوعي، وأجمل ما في الأمر الإرتقاء بذوقهم للمساهمة في بناء تونس الغد … تونس الجمال … تونس الورد. طموحاتنا الكبيرة تبدء بتغيير إيجابي صغير على كل ما هو في محيطنا !