” فرّك الرمّانة ” هما كلمتين يتمّ استخدامهما للمطالبة بحلّ خلاف أو مشكل ما واعتماد مبدء المصارحة وعدم التأجيل أو التسويف. للأسف، مرّت السنين والأعوام ونحن نستمع ونتابع ونتحمّل بصبر المواطنين الصالحين شرح السياسيين والخبراء الاقتصاديين والدجلة المتطفّلين والإعلاميين وأشباه الإعلاميين لموضوع الدّعم وتأثيراته السلبيّة على ميزانية الدولة حتى خلنا أنفسنا نعيش عالة على الدولة رغم مساهماتنا في صنع الثروة كلّ بما أمكن له وحسب موقعه. شرحو لنا أيضا كيف تذهب أموال الدّعم لغير مستحقيها، وبالتوازي كنّا ولا زلنا نستمع لتهديدات النقابيين والرفاق اليساريين من العواقب الوخيمة لرفع هذا الدعم عن الموادّ الأساسية بشكل خاصّ، والحوار متواصل …
إسمحوا لي بالتسائل مثل الكثيرين، ألهذا الحدّ وصل بنا العجز عن حل هذا اللغز؟ ألا توجد آليات لاحتساب نصيب المواطن العادي من دعم الدولة لكلّ المواد والخدمات؟ هل توجد في العالم أنظمة وتجارب سابقة يمكن الاستئناس بها والاستفادة منها؟ أسئلة كثيرة بقيت لسنوات طويلة بلا جواب وكأني بها أشدّ تعقيدا من بعض المعادلات الرياضية أو المظاهر الفيزيائية التي بقيت مستعصية على العقل البشري.
كلّ العالم المتحضّر يتعامل بحقيقة الأسعار ويدعم الفئات المستحقّة والهشّة أكثر من غيرها، ولا يتوانى في توفير رواتب معيشية تضمن حياة كريمة لمواطنيه وأحيانا لغيرهم من المقيمين نظاميا وحتى غير النظاميين لاعتبارات إنسانية أو احتراما لاتفاقيات ومعاهدات دولية. ولتشجيع السياح على التسوّق في الدول المتحضّرة يتمّ عادة إعفائهم من الضرائب في حال إثبات بأنّ المشتريات مخصّصة للتصدير ولن يتمّ الإستفادة منها أو استخدامها محليّا، خلاف ذلك لا أحد معفي من الضريبة المضافة على أي منتج يتم استهلاكه.
لنفتح قوسا عمّا يحدث في بلدنا وما هو ظاهر بالعين المجرّدة أمّا ما خفي ومعلوم من أصحاب الاختصاص فقد يكون أكثر بكثير وأخطر ممّا نتصوّر. كبرى المؤسسات والشركات تستفيد من الدّعم لتبيع منتوجاتها أو خدماتها للمواطنين بحقيقة الأسعار حتىّ لا أجزم وأنّها باهضة الثمن اذا اعتبرنا استفادتها من دعم الدولة. بعض المؤسسات ليست سوى حبرا على ورق لتنال نصيبها من المواد المدعومة. فئة لا يستهان بها من المجتمع في وضع مادي محترم وتنعم برغد العيش تستفيد من دعم هي في غنى عنه. أمّا المسكوت عنه ولا رغبة لأحد في الاقتراب منه يشمل ملايين الضيوف الذين يعيشون معنا باستمرار أو موسميا ويتحمّل الشعب التونسي تكلفة الدعم لتجوالهم في تونس بسياراتهم الفاخرة، أو تكلفة الدعم لكلّ الموادّ الأساسية التي يتمّ استهلاكها. لست من دعاة الانغلاق أو رافضا لقطاع خدمي هام لاقتصادنا الوطني ألا وهو السياحة، بل مطالبا بدولة تحترم حقوق الانسان ومنفتحة على العالم ومشعة في محيطها بحسن الضيافة والتعامل الحضاري والأخلاقي مع كل ضيوفنا. هل تمّت دراسات في تونس لاحتساب ما يستفيد به كل وافد من دعم؟ إذا كانت الدولة تدعم الطاقة فذلك يعني بأنّ الدعم يشمل كل الخدمات والمنتجات التي يستفيد منها أي وافد لتونس أو مقيم بها. أخشى أن يكون منتوجنا السياحي يسوّق ويباع بأقلّ من سعر التكلفة أمام ما تتحمله الدولة من دعم يشمل المحروقات وكل المواد الأساسية! جميع المستثمرين في كل القطاعات يطالبون البقرة الحلوب بالدعم والمساعدات وبشطب الديون لكن من يدعم الدولة؟
اليوم أكثر من أي وقت مضى الدولة ليست في حالة رفاهية مالية تسمح لها بإغداق المال على المستثمرين بدعوى خدمة الإقتصاد. إمّا مستثمر مسؤول وإلا فلا … يكفي من مغامرات العابثين بأموال الدولة بسابقية الإضمار أو استغلالا لضعف الدولة والثغرات القانونية أو التخفّي وراء الأحزاب والمناصب السياسية …
التحوّل الرقمي، للمرّة المليون أعيدها، هو الطريق نحو الشفافية ومن ثمّ محاربة الفساد. الرّقمنة يجب أن لا تكون وجبة اختيارية لمن يريد أو لمن استطاع إليها سبيلا، بل يجب أن تكون إجبارية على كلّ المؤسسات والأفراد. سياسة العتمة والضبابية والفوضى والاعتراض على كل المشاريع ذات الصلة بالرقمنة هي في خدمة جميع أنواع الفساد ويجب التصدي لها بالتشريعات والقوانين في أقرب الأوقات. لا بدّ من فرز حقيقي لرجال الأعمال النزهاء والمستثمرين الوطنيين ونقيضهم من المتحيلين على الدولة والشّعب. ولا بدّ من الفرز بين المواطنين والمساواة بينهم في الحقوق والواجبات. وأولى الحقوق هي الحقّ في العيش الكريم، وضرورة تمتيع المواطنين مباشرة ومسبّقا بما يستحقونه من دعم حسب تصنيف دقيق وشفّاف مبني على المدخول الشهري أو السنوي لكلّ مواطن.
ليتمّ حسم الموضوع بمسؤولية وشجاعة في إطار حلّ شامل يراعي ضعاف الحال والطبقة الوسطى بدل مواصلة إخضاع المواطن لعمليّات ترقيعيّة في شكل زيادات تدريجية متواصلة في أغلب المواد والخدمات ، وجبايات إضافية تتحمّل أعباؤها عادة الطبقة الوسطى أو المؤسسات الصغرى. منظومة الدعم من الملفّات العاجلة والواجب معالجتها بطريقة عادلة ومسؤولة ، وهذا غير ممكن قبل استكمال مرحلة التحوّل الرقمي.