يوم الإربعاء بحاضرة تونس، زادها الله تكريما وتشريفا، كنت في مشرب مكان العمل (الكليّة) مع أحد الزملاء، وكان بالمقربة منا شخص في عمري واقفا ينتظر شيئا ما، لابسا نظارة سوداء من قبيل تلك التي يلبسها غير المبصرين، وبيده عصا بيضاء… كنت أتكلم مع زميلي كلاما يغلب عليه المزاح وكنا نضحك لذلك، فإذا بالشيخ الأعمى يلتفت نحونا ويقول: “سامحوني… باش نقاطعكم… أنت موش فلان؟” وذكر إسمي… فقلت “نعم، مرحبا، سامحني لم أعرفك”… فقال مقهقها وهو يرفع كامل وجهه إلى السماء: “أعرف أنك لم تعرفني ولن تعرفني… فأنت كالعادة لا زلت تستعمل البصر في رؤية الأشياء.. ولن ترى أشياء كثيرة بسبب ذلك… فأنت لن ترى عندئذ إلا مظاهر الأشياء… ومظهري أنا قد تبدّل عمّا كنت تعرفه… فقد مرّ على آخر مرّة رأيتني على مظهري ما يقرب على الأربعين سنة… وقد تبدل المظهر.. فقد بلي الكساء”… وكان يضحك. وكان كلامه بالفصحى كما أوردته… وقهقهته العالية وكلامه بالفصحى أمران جعلاني أعرف أن مخاطبي هو صاحبي “علي….” الذي تعرفّت عليه سنة 1975 طالبا بقسم العربية بكليّة 9 أفريل ومقيما في المبيت الجامعي “الكرافيل” (قرب مدينة العلوم حاليا)… نعم لقد كان هو، وأرجعني قوله ” أنت وعبارة “كالعادة” لا زلت تستعمل البصر في معرفة الأشياء” بكوني كنت أدخل عليه ليلا وعلى زميله الذي يسكن معه في نفس غرفة المبيت، فأجد الغرفة غير مضاءة لكونهما لا يشعلان النور وهما يذاكران… فكنت أقول دائما: آش بيكم في الظلام؟؟ علاش ما شعلتوش الضوء؟؟ فكانا يردان عليّ دائما بنفس المقالة: نحنا ما ناش معاقين مثلك لا نرى إلا بفضل نور الكهرباء… نحن نرى في الظلام… ويضحكان). لقد كان هو وإن قد تبدل مظهره كثيرا… أحسست بسعادة لا توصف لرؤيته… وأخذته وجلسنا وأنا لا أكفّ عن مخاطبته والتعبير عن سعادتي برؤيته، وقلت: لم أعرفك يا علي، فقد ذهب شعرك وزاد وزنك…فقاطعني يقول: ” من حيث الوزن، نعم، ثقلنا نعم ولكن الملائكة هي هي… خفيفة هاهاها وأنت؟ كما كنت؟؟ “طول بلا غلّة؟؟” هههااها. فقلت: “لا يا حسرة على الطول… تهدت الأكتاف يا علي”… وأضفت قل لي: “كيف عرفتني منذ لحظة؟” فقال : من حسّك عندي…” وقالها بالفصحى. وصاحبي علي هذا كان هكذا دائما يتكلم بالفصحى كلّما يريد تبليغ معنى وعليه يجب أن يكون كلامه مفهوما من “المحيط إلى الخليج” (هكذا كان يقول)، وبالدارجة كلّما كان الأمر يتعلّق بالمشاعر… “باش نضحك وإلا باش نبكي” كان يقول. طال بنا المقام حتى سألته عن الأولاد (وكنت أتوقّع أن يتكلّم في ذلك كلاما صار شائعا بين أغلب الوالدين من قبيل: عندي طفل قرى في ألمانيا في مدرسة كذا للهندسة الفوق الهندسية وشدوا فيه الألمان وهو غادي لا بـــــــــــاس عليه ويقبض كذا في كذا… والطفلة عندي عندها زوز دكتوراه في بيولوجيا تحت الذرية والأمريكان يجريوا في جرتها ويحاولوا معاها ولكنها قالت لالا ما نخليش أمي وبابا.. إلخ ) ولكنه لم يقل ذلك وكنت أعرف أن له أبناء متفوقين في الدراسات العليا: وقال: “مثلهم مثل أولاد جيلهم. الدراسة أكلت شبابهم والظروف قهرت طموحاتهم وقصّت لهم أجنحتهم..وأبوهم الكلب معاق في عالم مبصرين لا يستطيع لهم حيلة… له عضو البصر لكن دون الوظيفة…وتلك عاهة لا تستطيع حياة كاملة علاجها”…. ثم قال بالدارجة: هوما يراوا تعاستي وأنا ما نراهمش… وسكت وهو ينزع نظارته السوداء ثم يعيدها في اضطراب واضح. فقلت : طوّل بالك يا علي… علاش هكّة؟؟ فقال: “عمايلك…” تسأل لواش؟؟” ورأيت أنه قد كان يبكي وعيناه جامدتان لا يخرج منهما دمع ولكنه كان يهتز بكامل جسمه وهو يرفع كامل وجهه إلى السماء… تفارقنا بعد مدة، وقد جاء من يأخذه من أهله وكان من طلبة الكليّة. فقلت له عند وداعه: “يا علي قل لي كلمة باهية”… فقال: “إنت خويا”… قالها بالدارجة. تعليق: يلعن بو الوقت المزمّر (بالدارجة).