خواطر تشكيلية بقلم عبد اللطيف الكوساني
الخطاط/ الفنان التشكيلي عبد اللطيف الكوساني
يُولّدُ التأمّل الإيحاءَ الذي يُولّد الصُّورة حتى يُحوّلها الفنّان إلى شكل من الأشكال الإبداعيّة ( شعر، موسيقى، رقص، رسم … ) وهي إبداعات تعجّ بأسرار لا نستطيع حصرها ولا كَبْتها. فتَنامي الصُّورة في صدور أصحابها وتَدافعُها، قـدْ يطولُ أوْ يقصر أمدُها … ورُبّما أيضا تَقتلها العوائق على اختلافاتها وتدفنها، قبل أنْ تتشكل، على مرّ الزَّمان.
راعَني الكونُ بما فيه من جمال، وعمق دلالة، ومهابة تُلجمني عن الكلام، ودافعٌ يَدعوني، للكشف عن القليل والقليل منه. صرت أتأمله وأتأمله. وصارت نفسي تُخاطبني، لمزيد التأمُّل وتدفعني الى مجهول تستقرّ فيه. نظرت حولي فاحِصا، فإذا ملامحُ الصُّور تتدافع وتتسارع رغبة في التشكّل والبُروز، وتراقصت الألوان أمامي، وأغرتني راحة البال. فانفردت بذاتي أُحاورها كي أهوّن عليهـا وأسمو بها، إلى عالم خاصّ لا مكان للآخـر فيه. فَهَا هي أصابعي تُطاوعني، والرِّيشة تهتزُّ طربا وتَستجيب لأفكاري، فتَتجسّم بسلاسة على أوراقي … كانت الصُّورة الأولى، وكانت البداية، تعبيرا عن بعـض الخفايا التي أوْدعها مُدبّر الكون في خلقه… إنّه شُكرٌ لله على بديع جماله واتِساع عالمه وعظيـم صُنعه. لم تشبع العين، ولم تقنع النّفس، ولم يرتوِ الظمأ، فتعددت زيارة المعارض، ونمت مطالعاتي للبحث عن زادي، وعُدت مُتلمّسا معلوماتي، وكثرتْ استفساراتي، مُختفيا خلف لوحاتي، لمعرفـة الإيجابيّ حتى أسْتمرّ فيه وأدعمه، وابحث عن سلبيّاتي لتفاديها، مُستفيدا من نقد المُقبلين والمدبرين لذاتي. لذلك، نبّهتني تلك الاحتكاكـات، والأعمال الفنيّة المعروضة، والمطالعات الخاصّة إلى التواصل والتناغم بين الفُنون. إنّ روعة الفنّ وأسباب أخذه بألبابِ النّاس تكمن في قدرة الفنّـان وطبيعته وميوله وفهمه للجميع. فاللّوحة الرّاقصة مثلا، لا تقوم على الحركة فحسب، – وإن كانت الحركة جوهرها- ولكنّها تكتمل وتفعل في النّاس إذا أبدع مُنتجها في اختيار الألوان والأضواء والموسيقى وما إلى ذلك… وما اللّوحات التشكيلية هي أيضا، إلا تعبير عـن هذا الإطار، شأنها في ذلك، شأن بقية الفنون بلْ إنّ ما يكابده الفنّان التشكيليّ في عمله، هو أشدّ عناء لأنّه المسؤول الوحيد عن التنسيق بين مُختلف العناصر. هذا العمل الفنيّ حيـن يَمتزج بغيره من الفنون ويتلوّن بها، يدع المجال فسيحا لتأجيج العاطفة وإمتاع النّظر وإعمال العقـل، وكلـّما أعدت النّظر فيه،إلا وأدركت أمرا جديدا. لذا لا غرابة مع تلك المعاناة، أن يدّعي أحدهم أنّ اللّوحة الفنيّة أو القصيدة ونحوها، هي بمثابة أحد أبنائـه، أو أن يخرج بهيأة مُختلفة عن المألوف، مُعلنا بذلك تميّزه والانصياع لِعالمه الخاصّ. فيُصبح شخصا غريبا أو معتوها في أعينهم، وهو أعقل العقلاء.
إنّ عملية الانصهار تتمُّ في ذات الفنّان، بعد إذكائها بمخـزون بِيئته التي تجذّر فيها، وحضارته التي تُميّزه عـن غيره، والتي أضافت إلى شخصيته ما أضافت وضيّقت عليه أحيانا، فتفجّرت تلك الأعمال على يـديه، في هـدوء وسكينة ودون شُروط مُسبقة ولا طلبا لمُقابل، سعادته في ذلك سعادة الآخريـن حين يُقبلـون عليه يسألونه ويستفسرون، وقـد شدّتهم تلك اللّوحة الفنيّة، فيحاولون كشف خفاياها.
الخطوط والأشكال الهندسية والتلوين (1983 – 1984)
لعلّ حُبيّ لِوداعة الطِّفل وقُربي منه بين الفَينة والأخْرى، لعفويته البريئة التي لا تحمل أضغانا مُسبقة، ومشاعره الصادقة تُجاه الآخرين، وتصرّفه (اللا مقبول) أحيانا أخرى، إلا نتيجة تجربة لقاءاتي بهم. فدعوا الطِّفل يختار ألوانه بنفسه لتعرفوا أحواله. وانْصِفوه لتستقيم شخصيته، قبل أن تُحدثوا فيها شرخا. حاولوا إقناعه بالخِطاب والدَّلائل، لتصقلوا موهبته. فله طاقة دفينة، لا نعلم سرّها. لذلك يجب التعامل معه بحذر، ومُجاراته ليُنفّس عمّا بداخله. للطِّفل أيضا تصوّر غير محدود وخيال رحب ، فسانِدوه، للبَوح بما يشعر به. وادفعوه للاضافة والتفكير، من خلال التمارين دون أن يشعر بذلك، مع تشجيعه. ثمّ أنّه ورقة ناصعة البياض، فلا تلوّثوا صفاءها، واحذروا تلقينه ألفاظا تعود سلبا، على المجتمع لاحقا. وذهن الطّفل كذلك، آلة فوتوغرافية تلتقط كلّ شيء يعترض طريقها، في أعوامه الأولى، ممّا يؤثرُ في شخصيته بمُرور الأيّام. بالإضافة إلى أنّه مُقلّدٌ ماهرٌ يطلب المساعدة بادئ الأمر. ومن هنا كان البحث أوّلا، تيسيرَ فهم الأشكال الهندسية التي ترافقه طيلة دراسته، في مجال مُتكامل مع بعض الرّسومات المُحفّزة تذكّره وتدفعه للبحث عن أشكال جديدة
( الخطّ العربيّ ( 1984 – 1986
نشأة الكتابة: خَربَشَ الانسان منذ نشأته، في الكهوف والمغاور وعلى الصخور مُعبرا عن هُمومه ومشاغلَ عايشها هنا وهناك. وخلال حِقَب مُتفاوته من التاريخ، ونتيجة لذلك، حلّت للوجود الكتابة المسمارية 3500 ق.م للآشوريين، في بلاد ما بين النهرين. ثم ظهرت الكتابة الهيروغليفية عند الفراعنة المصريين يعد ذلك. وتضاربت الاقوال واختلفت من جهة أخرى، رغم ما دعت اليه الكتب السماوية قبل الإسلام لطلب التعلم. ولعل الخطّ الحُمري لأهل اليمن الذي تعدّد تسمياته في شيه الجزيرة العربية وكتب به “ملوك عاد ” الأقرب للحقيقة من اختلاف الروايات عن نشأة الكتابة واختراع الحروف الهجائية. ولعلّ وُجود نقيشة أمّ الجمال 250م ونقيشة قبر أمرئ القيس 328م، في جبل الدروز بلبنان ثم ما تبع ذلك من نقائش وُجدت في شبه جزيرة سيناء بين 1904 -1905م( التي بدت لغزا حتى سنة 1947م ) إلا لغز فكّ رُموزَه المستشرق الهولندي ” فان دي براندن” Van Di Brinden ليقول: أن الكتابة العربية والكتابة الكنعانية نشأتا في شبه جزيرة سيناء. أمّا ” أبرايت ” Abraiet فيقول: أن عدد الحروف الهجائية المنبثقة عنها: ألف – باء – جيم … ثمانية وعشرون حرفا، يعود تاريخها إلى ما بين 1500 و 1800 ق م. ثمّ يوضح القلقشندي في كتابه صبح الأعشى: إن آدم (ع ) هو أوّل من وضع خطوط الكتابة كلّها ” مُعتمدا على قوله تعالى في سورة: البقرة الآية: 30 ” وعلم آدم الأسماء كلّها “. وربّما هذا ما دعانا للتفكير والرّجوع للنقائش. والفترة التي ذكرها الباحث” أبرايت ” سابقا، ومُقارنة بينها وبين الفترة التي عاش فيها سيدنا ابراهيم (ع )، وبالرُجوع إلى القرآن الكريم في سورة الأعلى– الآية: 18 و19 وقوله تعالى: ” إن هذا لفي الصّحف الأولى، ُصحف ابراهيم وموسى ” ، ثمّ قوله أيضا في سورة الأعراف الآية 144 مُخاطبا سيدنا موسى (ع ): ” وكتبنا له في الألواح من كلّ شيء موعظة وتفصيلا لكلّ شيء.” صدق الله العظيم، إتضح لنا أن الوحي الذي نزل على سيدنا محمد (ص ) كان قولا عن طريق سيدنا جبريل (ع ). أمّا ما نزل على سيدنا ابراهيم وموسى عليهما السلام، فكان مكتوبا على الألواح، ممّا يدعو حسب قراءتي كفنان، أن الكنعانيين إحتكوا بالأقلّية من اليهود وقتها، وبذلك اكتشف الكنعانيون ( الفينيقيون ) تشكل بناء الحروف من الألواح المُنزّلة. وقاموا بتقديمها الى العالم من خلال تسمياتها العريبة ومثال ذلك: ألف – ألفا / الباء – بيتا / والدّال – ديلتا … وجاءت الحضارة العربية الإسلاميّة فوجدت الخطّ النّبطي المتداول بأرض الحجاز المسمى بالحِيري والأنباري بأرض العراق ليُطلق عليه الفاتحون بعد ذلك، إسم الخطّ الكوفي نسبة إلى مدينة الكوفة التي انطلق منها، حتى تجاوز اليوم عتبة المائة والعشرين نوعية. وهكذا بدأ الخط العربيّ شيئا فشيئا، في إضافة أنماط جديدة أُطلق عليها ” الأقلام الستّة”.
لقد تميّز الخط العربي، عن باقي خطوط الكتابة في العالم، بسحر حركاته المتنّوعة وتعدّد تشكلات حروفه ممّا جعله محلّ إعجاب وتقليد. فخطّ ” إيطاليك ” ذي الكتابة المائلة ما هو إلا نسخة مُطابقة لكتابة عربيّة وجدت سنة 750م. و خطّ ” الجوتيك ” يتمّ بناء حُروفه كما يتمّ بناء حروف الخطّ الكوفيّ. امّا أساس الخطّ ” الانجليزيّ ” الليّن فيستمدّ حركة حروفه من حركة المدّ والنّون من خطّ ” النستعليق مقلوبة “. ولا غرابة في ذلك فالحروف العربيّة قد سبقت وجود الحروف اللاتينيّة بأكثر من ستّة أو سبعة قرون كاملة. وذا عُدنا من ناحيّة أخرى، إلى الدكتورة “تحية عبد العزيز إسماعيل” ( أستاذة علم اللغويات وكتاباتها باللغة الإنجليزية ) فنراها تقول في ما معناه : “بعد عشر سنواتٍ من دراسة وثائق ومخطوطاتٍ وقواميس، أثبتت الكاتابات بمنهجٍ علميٍ رصينٍ، أن اللغة العربية هي أصل اللغات جميعًا، مُقدّمة جدولًا بالألفاظ المشتركة بين العربية وكل من اللاتينية، والإنجليزية، والأنجلوسكسونية، والفرنسية، واللغات الأوروبية القديمة، كاليونانية، والإيطالية، والسنسكريتية، لنجد كمّا هائلا من المفردات المشتركة رغم بعد المكان والإحتكاك بين الشعوب وصعب تنقل للأفراد بين الأقطار. وهذا ما يثبت أن اللغة العربية كانت الأصل والمنبع، ثمّ أذا أكدنا ذلك بمسميات الحروف في اللغات المذكورة. وليس هذا بالعجيب، إذا قارنا الجذراللغوي للغة العربية، بمثيله من اللغات الأخرى. فاللاتينية تضم سبعمائة ألف جذرٍ لغويٍ، واللغة السكسونيّة لها ألفي جذرٍ لغويٍ، أمّا العربية فلها ستة عشر ألف جذرٍ لغويٍ. ويضاف إلى هذه السّعة سعةٌ أخرى في التفعيل والاشتقاق والتركيب. ونذكر على سبيل المثال كلمة جيّد يخرج منها الجود والجودة والإجادة ويجيد ويجود وجواد وجياد ليٌقابلها بالإنجليزية لفظ واحدة Good … وإذا عدنا الى كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي، نجد فرقا شاسعا بين عدد المفردات في اللغة العربية وغيرها. فاللغة الإنجليزية المستعملة بكثرة في العالم تحتوي ستة آلاف كلمة على أكثر تقدير، والفرنسيّة بحوالي مائتين وخمسين ألف كلمة على أكثر تقدير، والسلافية بحوالي مائتي ألف كلمة على أكثر تقدير، وإذا عدنا للعربية فهي إثني عشر مليون. وزد على ذلك أن اللفظ الواحد يعطي أكثر من معنى مثلا: رضا – ورضوانٌ / عنفٌ – وعنفوانٌ…”
القطع والتركيب والتلصيق (1986 – 1987)
إنَّ القطع والتّركيب والتّلصيق تَلاحمٌ ينمو بين نفس الجنس أو من خلال أجناس مُختلفة. وقد يأتي التطعَّيم بمواد أخرى مُغايرة، ليزيد المشهد بهاء وثراء. يحمل هذا المنحى الفنيّ طُرقا مُتنوّعة، في كيفيّة تقديم الأشياء، حسب المكان والزّمان والمادّة المعمُول بها أو المُتوفّرة. وهذه الأخيرة يُمكن أن تكون طبيعيّة للعمل بها مُباشرة أو مُصنّعة. فتتمّ الإضافة والتهذيب، لتشكّل مَلمحها النهائي، في حُلّة بهيّة إذا استخدمت، في الحِرف اليدوية. أما استعمال فواضِل بعض المُصنّعات القابلة للتّلف، فيقع جمعها ومراجعاتها مِرارا وتكرارا من قبل الفنّان. وقد يلتجئ لقراءتها للوقوف على أسرارها، مُنطلقا من ثناياها، حتى يستكشف ما يمكن أن تُوحي به، مُحرّكا اتجاهاتها كي يُبرز أفضل ما فيها، بعد أن يُحدّد مسافة ربطها إن وجدت، ويتبيّن نقائصها بحثا عمّا يٌريح البال أثناء المشاهدة . فيطمئن وجدان الفنّان، ويستقرّ ويهدأ، خاصة أنه بَعَث الرُّوح في مولوده الجديد، أو هي ألياف متنوّعة يُحوّلها الحِرفيّ عادة حسب قُدرته إلى مُستعملات يوميّة ترمز لصاحبها والجهة التي ينتمي إليها. و يستغلها الفنّان أيضا، لتقديم أعمال فنيّة رائقة تُبرز مُؤهلاته وقدرته على تكييف الأشكال والأشياء المحيطة به.
زخارف التّقاطعات من كتاب سلسلة منابع فنون الزخرفة ( 1996 -1998)
في سياق بحثنا، لفهم ما جاءت به كُتب الزّخارف – ماضيا وحاضرا – شوّش الأفكار عامّة. هذا الخلط بين المنظومات الزّخرفيّة، وغياب تحديدها وتحديد مسالكها أحيانا، وتجانسها أحيانا أخرى، وتصنيف تفرّعاتها ولّد الاعْتقاد السائد حتى اليوم، بأنّ الزّخرفة عند أهل الاختصاص، هي » زخرفة نباتيّة أو زخرفة هندسيّة «. ممّا زاد في التعقيد، وأدى للخلط بين المُفردات الفنيّة هنا وهناك. فتعسّر الفهم أكثر فأكثر وغاب عنّي الإرشاد من أصحاب الميدان. وبإيمان ثابت وتَروٍ عقلانيٍّ ومراجعات مُتعدّدة وممارسات ميدانيّةٍ، أدركنا بادئ الأمر، أن لكلّ بناء زُخرفيّ، مُفرداته ومٌتمماته التي يقوم عليها. و هنا حتّم عليّنا الواجب – بما أنّنا عايشنا الزّخرفة، تدريسا وإنجازا – الخوض الجادّ والحازم، والإحاطة بهذا الموضوع الشّائك، في جوانبه المبعثرة المغمورة كمتاهة تفاداها وأحجم عنها السابقون أو وقعوا فيها وزادواها تعقيدا. فكان عملنا بحثا جامعا مُطوّلا ومُعمّقا، في القديم والحديث، لفهم الزّخارف على حقيقتها. وبادرنا بتحديد أنواعها وتقديم مفاهيمها، حتى تكون الانطلاقة من أرضية صلبة. وأرفقنا ذلك، بالتحاليل المنطقيّة وتقديم الدّلائل، وتيسير طُرق البناء، لإثرائه بلمسات جديدة مع كلّ باب تناولناه. ثمّ أطلقنا عليه عنوان ” منابع فُنون الزّخرفة “. وما هذا الفصل الذي نخوض فيه، إلا دليلا قد نظّمناه، للإدراك والتطبيق الفعليّ. فالمُقارنات وتحديد اتجاهات الزّخرفة الفنيّة، عنوناها بتسمية شاملة ” زخرفة التّقاطعات ” لا مَجْدُولات، ولا ضفائر، ولا خيط عربي ولا عقد ولا، ولا..
إنّ فنّ زخرفة التّقاطعات فنّ عريق ضارب في القدم تناقلته الحضارات السّابقة وأضاف له البعضُ، ما أضاف. وحدّدناه في سبعة مسالك رئيسيّة:
1- التّقاطع العاديّ.
2- التّقاطع بالنقطة.
3- التّقاطع بالخطّ المُنحني.
4- التّقاطع بالنّقطة والخطّ المستقيم.
5- التّقاطع النّباتي.
6- التقاطع بالخيط العربيّ.
7- تقاطع حروف الكتاب.-è
مع دُور الثقافة (كتابي: كيف أرسم يا… تجربة ميدانيّة استمر من 1990 حتى 2020
لقد دأبت مدارس الفنون الجميلة، على تدريس مادّة الرّسم لأبنائنا الكبار على مراحل في حلقات ثلاث هي : التدرّيب والاتقان للعمل بالخطوط، فالنّقل المباشر للأشياء، ثمّ الإضافة، وهو باب التفرّد والتميزّ. والسؤال المطروح: أين نحن مع أطفالنا وخاصّة في مراحلهم الأولى، من ذلك؟ فالطفل في سنواته الأولى، -لكونه مازال لا يتحكّم في أطرافه، ولا يدرك الأشياء من حوله، ويهاب الفضاء ولو على ورقة بيضاء رغم طاقته الوقّادة المختفية بداخله – يـُفضّل الانطلاق من واقع ملموس ويرغب في المساعدة. والطفل يتطلّب منّا محاولة فهمه ووضعه على الطريق الصحيحة، ليدرك غايته في كلّ مراحل حياته، وإن كان أحيانا قادرا على القيام بذلك، لوحده لو لا خِشيته من النتيجة التي لا يستطيع تخمينها في مثل عمره. آنذاك نجد طلباته لا تنقطع أبدا، ويحرجنا بها غالبانظرا لعجزنا عن إدراك خفاياه المُنتظرَة. فالواجب هنا يحتّم علينا تبسيط الأشياء له، في كلّ المجالات وإعانته على فهم رغبته. ومن هنا بدأت الحكاية مع الطفل من موقعي، للإجابة عن سؤالي السابق.
تحوّل الأمر من هاجس يسكنني الى شغف يلازمني. والمطلوب مني، إيجاد قوالب تؤطّر الطّفل وتساعده على الرّسم دون ملل، وتقرّبه من واقع يشدّه شدّا للتّعبير عمّا يحلم به ويحاول تبليغه، من خلال خربشات يقدِر عليها ويراها رسما. فكانت بعض حركات الحروف العربية التي مارستُها، وتسميات بعضها التي تربط الحرف بالرّسم، خيطا يوجهني. عند ئذٍ قمت بتجريد بعض الحروف مقدما الحَلّ الذي توصلت إليه.
تحوّلت التمارين التي أقدّمها بادئ الأمر، بعد مخاض، إلى مولود فنيّ بعنوان: (كيف أرسم يا…؟) يراعي الأعمار، في منهجيّة مدروسة مُنطلقَة من البسيط الى المركب، مع الشّرح المرافق لها. ثمّ تأتي الإضافة بعد التدرّب والمعايشة، لتفتح باب الانطلاق نحو التميزّ. وختمتُه بمعرض فنيّ أطلقت عليه إسم “حروف وتراث” ليكون داعما للتجديد ، ومن ثمّة إدراج الخطّ العربيّ ضمن مادّة التربيّة التشكيليّة.
(2007-2006)، زخارف كوفية
حفزتني الصدفة وأفاقتني من الغفوة، بل هي ثورة على نفسي السّاكنة حينها. وهو ما دفعني، لاكتشاف عالم الزّخرفة من خلال أجنبيّ يدّعي المعرفة، والتجائه ” لمجلّة حروف “، قصد الاقتباس منها، لتقديم تمارين لطلبته، كي يتتبّع أخطاءهم ويحاسبهم.
لِلخطّ العربيّ مكانة في نفسي. فهو سفير سلام يُشرّفني، ومبعث فخر يرفع درجتي. وها هو اليوم قد صار مِحجّ الجميع، من فنّانين تشكيليين وحِرفيين، لسحره وثرائه وروعته، بالإضافة الى ارتباطه بالمقدس، وكونه أحد مُقوّمات الحضارة التي تُمثّلني.
هذا الرّمز الشّامخ عبر الأزمان، والفنّ القائم بذاته، والثريِّ بأنواعه المُختلفة، والزّاهي بتشكّلات، ليس أمرا هيّنا. فالخوض فيه والاستفادة منه ومعرفة أسراره والإفادة به، أوجب التدرّب على قواعد هذا الخطّ العربيّ وتكرارها – ما أمكن – لاستساغتها وغرسها في ذات الفرد، ممّا يتطلّب المُراجعة الدائمة حتى لا ينفلت مِنه. ذاك ما شغلني في البدايات، كخطاّط مُحترف قمت ببعض الأعمال على محامل مُختلفة تُحاكي بعض الأحداث المُستجدّة على السّاحة الإعلامية، مُستعملا الخطّ الكوفي، وخطّ الرُّقعة، و الخطّ الفارسيّ، والثلث ونحوها… وأدركتُ بعدها أنّ للخطّ مسالك مُتعدّدة أخرى تحاشاها الآخرون، تَتطلّب جُرأة وإقداما وبحثا مُقنعا لِلإثراء. واستجابة لكلّ هذه الدّوافع، تولّدت هذه الزّخارف الحروفيّة في معرض يشمل أكثر من ثلاثين عمل فنيّ.
ليس الخّط عامّة وسيلة تعبيريّة فحسب. لذلك صنفتُ الخطّاطين: هناك خطّاط مُحترف مُلتزم بالتّكرار، والإتقان وكتابة النّص أو تقديم اللّوحة الخطيّة، ديدنه في ذلك قدسيّة الحروف وتشكلاتها والالتزام التّام بمقاييسها الفنيّة. وهناك خطّاط آخر متبع لنفس المنهج، مُنبهر بجمال الخطّ وسلاسة حروفه فيقتحم عالمها، لتوظيفها مُتحدّيا الواقع الثابت وقد يكون في شكل لوحة فنيّة حروفية أو عمل زخرفيّ يلج به، المنظومة الزخرفيّة الحروفية. وأخيرا نجد الخطّاط الباحث بصنفيه: إما لدراسة الخطوط ومعرفة خصائصها وحقائقها للتوثيق، وإمّا أن يكون باحثا عن التميّز – في لحظة تعتريه – وواقع يدفعه للإضافة، وهنا يكون الرّفض من بعضهم، لأنّ التّعوّد على الشيء يُحاصر التجديد.
عبد اللطيف الكوساني