في قناعتي أنّ عصر النهايات قد ولّى وفات وأصبح العالم الآن يهتمّ بالبدايات. فكلّنا نترقّب اليوم ما سينتج عن الثورة الرقميّة التي أحدثت تحوّلا جذريّا في تعاملنا مع الأفكار والأشياء وخاصة في الذكاء الاصطناعي حيث سيأخذ العيش وجها آخر يصعب التكهّن بمعطياته ومستتبعاته. نحن في تونس وللأسف لم نفقه هذه الأبعاد وهذه الثورات فالسياسيون واهل القرار في ربوعنا ينظرون إلى الوراء ومنهم من يريد استئناف حياة العصور القديمة ومنهم من يزال يحلم بالنظام المجالسي السوفياتي ومنهم أيضا ما يبني خطابه على منظومة مفاهيم قدّت في الستينات من القرن الماضي. أمّا من تجرّأ محاولا مواكبة عصر التكنولوجيّة المستقبليّة فمآله يمكن أن يكون السجن على غرار المهندس التونسي الذكي الذي أراد تجربة المال الإلكتروني الرقمي cryptomonnaie وهو مال المستقبل في شكل آخر إذا ما تحرّر من هيمنة الاقتصاد الموازي والإجرامي وهو مستعمل الآن في بعض بلدان العالم التي أحدثت له تشريعات خاصّة فوجد هذا المهندس نفسه في غياهب السجن يبكي حظه. نعم خالف القوانين وكان بالإمكان معالجة قضيّته بطرق أخرى.
وبتطوّر الذكاء الاصطناعي والاستعمال الرقمي هل سينتهي العمل وتعني به النشاط اليدوي والذهني اللازم للحياة اليومية؟ نهاية العمل أكذوبة عذبة لأنّنا نعرف آنّ العمل يتطوّر بتطوّر الآلة ويأخذ أشكالا أخرى وينتح تعاملا مختلفا مع البيئة والمجتمع ولكنّه لا ينتهي. فليست هناك نهاية للعمل إلا في ذهن الكسول أو عند الذين ينادون بالحقّ في الكسل. وسؤالي هنا هو التالي ماذا أعددنا في تونس لمواجهة هذا التحوّل الجذري في مفهوم العمل؟
كذلك الشـأن بالنسبة إلى فكرة نهاية الإيديولوجيّة التي ظهرت في الغرب إبّان سقوط جدار برلين. في واقع الأمر وبعد الحرب العالميّة الثانية تجنّدت الليبيراليّة بكلّ قواها وبكلّ مؤسّساتها وعلى جميع الأصعدة ومن بينها الصعيد الثقافي والفلسفي للقضاء في مرحلة أولى على الشيوعيّة والماركسيّة وفي مرحلة ثانية على الفكر اليساري بصفة عامة فوجدت الحيلة في تقليص المعنى الدقيق لمفهوم الإيديولوجيا ليقتصر على الشيوعيّة وما شابهها. أمّا الليبيراليّة فهي ترى نفسها بدون إيديولوجيّا. كذبة أخرى انطلت على الكثير من المفكّرين والمثقّفين في العالم. وأصبحت عندنا بعض الأحزاب تتبجّح بكونها بدون إيديولوجيا وهي غارقة في الإيديولوجيا حتّى النخاع. وقد ساعدت فكرة نهاية الايديولوجيّة على هيمنة الليبيرالية الجديدة في كلّ المجالات وحوّلت الإمبريالية إلى عولمة بمحاولة احتواء أنماط الحياة في نمط واحد تتحكّم فيه أكثر وأصعب من تحكّم الشيوعية في حياة النّاس حتّى أنّها حاولت إنهاء إمكانيّة النضال والمقاومة.
وهكذا، فإن كلمة إيديولوجيا أسيء استعمالها فهي لا تعني إلاّ ما هو متلائم عموما، سواء في الخطابات أو الأفعال التي تصاحب ممارسة الحكم. غير أنّ الإعلان عن «نهاية الإيديولوجيا» دون أن تكون هناك قدرة على إقامة حكم مقامها في مستوى تحليل آليّة الحكم السّياسي، لا يكون مقبولا من النّاحية النّظرية. والمحاولات المتعدّدة لاستبدالها بمصطلحات أخرى لم تكن موفّقة من قبيل عبارات: «تكوين مقالي» عند فوكو أو «الأسطورة» عند بارط أو«الدوكسا» عند بورديو أو «مؤسّسة العلامات الخياليّة» عند كاستورياديس. فالإيديولوجي لم يتوقّف عن أن يكون محلّ تحليل وتشريح واختزال. والحقيقة بلغ استعمال هذا المفهوم في الأدبيّات الماركسيّة وأدبيّات ماركس –زيادة على الخلاف–درجة من التشدّق في الكلام لا يمكن قبولها. ومع ذلك لا يمكن أن نكون أبدا في مأمن من الإيديولوجيا، إن صيحة الانتصار التي أعلنها بعض المثقّفين أكّدت، بعد سقوط الاتّحاد السّوفياتي، أنّه لم يعد هناك مكان للإيديولوجيا غير أنّ هذه الصّيحة ترجمت بالفعل سذاجتها ومفارقتها والصّعوبات التي تنجرّ عن كلّ تعريف للإيديولوجيا. لا توجد نهاية للإيديولوجيّات ولا اندثار لليوطوبيّات بل يوجد فقط وببساطة تأهيل جديد للفضاء الذي تتجسّد فيه الأفكار والتّصورات والبرامج السّياسيّة. فالإيديولوجيا مندسّة في كلّ خطاب سياسي مهما كان وأينما وجد وهي قد تظهر في نسق منطقيّ في بعضّ خطب تتّجه إلى النّاس فيظن بعضهم أنّها خلت من الإيديولوجيا.
كذلك فرحة فوكوياما بانتصار الليبيراليّة انتصارا نهائيّا هي كذبة وخدعة هدفها القضاء النّهائي على فكرة تحرّر الشعوب والأفراد، فبسذاجته كان يعتقد أنّ التاريخ سينتهي، من خلال تعميم الليبيرالية، بسعادة البشريّة. ولكنّ الحروب تكاثرت والمظالم عظمت والقهر و”الحقرة” أصبحتا ديدن العلاقات بين الشعوب والناس. فالتاريخ لم ينته ولن ينتهي لأنّه سيرورة تعمل بآليات متنوّعة ومختلفة ومن بينها إرادة الناس والشعوب وثورة تونس كذّبت مزاعمه وجعلته يراجع نفسه في كتاباته الأخيرة.
في واقع الأمر عاشت الإنسانية قلق النهاية في أواخر القرن الماضي فأصابت المثقفين والمفكّرين هستيريا النهايات فأصبح الجميع يتفنّن في الاستدلال على نهاية ما. فهذا يعلن عن نهاية التاريخ والآخر عن نهاية الدين وعن نهاية الأيديولوجيا ويأتي فيلسوف ليبشّر بنهاية الفلسفة وهكذا دواليك. فاستشكال النهايات يعود بنا إلى الفلسفة الهيغلية الماركسيّة التي تحدّد البدايات على منوال الأديان وتعلن عن النهايات. وفي رأينا لابدّ من التعقّل والتّانّي في تشخيص الأمور. فلا النهايات بدأت ولا البدايات انتهت. فالإيديولوجيا والتاريخ والعمل والفلسفة كلّها تسير وتتحوّل وتتغيّر وتولّد الجديد…