سالم العيّادي
كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة. جامعة صفاقس
سالم العيّادي
كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة. جامعة صفاقس
( https://couua.com مقال نشر بتاريخ 6 ماي 2021 على موقع)
مقدّمة
الفكرةُ النّاظمة لمجمل المباحث الفلسفيّة الّتي اقترحها أستاذنا فتحي التّركي هي فكرةُ العيش المشترك أو التّآنس من حيث هو “تعايش منظَّمٌ حسب قاعدة الأنس والمحبّة” بوصفها الأرضيّة الإتيقيّة لـ “سعادة الحوار”[1]. وقد وضع التّريكي مفهوم التّآنس على محكّ الدّرس والنّقد من خلال قراءاته لأعمال التّوحيدي ومسكويه. وانتهى إلى أنّ الأنسَ هو “تجربة المودّة والألفة” وهو “أروع شكل للكينونة والوجود مع الآخر”[2]. ولكن كيف يمكن مواجهةُ ما يعتري العيشَ المشتركَ من تفاوتٍ واستغلالٍ ومن تصادمٍ وعنفٍ داخل المجتمع الواحد وفي سياق العلاقات الكوسموسياسيّة الرّاهنة؟
إنّ النّواة الصّلبة في استشكال هذه القضيّة، وفي البحث عن حلولٍ ممكنةٍ ومشروعةٍ نظريًّا وعمليًّا، هي القراءةُ الفلسفيّةُ الّتي باشرها التّريكيّ – منذ سنة 1997 على الأقلّ[3]– لمفهوم التّعقّل كما صاغه أبو نصر الفارابي. وقد اعتبر فتحي التّريكي الفارابي لحظةً أساسيّةً حاسمةً في تطوّر الإتيقا بين اللّحظة السّقراطيّة واللّحظة الكنطيّة[4]. ومن المادّة الدّلاليّة للتّعقّلِ الفارابيِّ صاغ التّريكي مفهوم التّعقّليّة في إطار الحوارِ الفلسفيِّ مع دريدا وهابرماس وراولس. فما دلالة التّعقّليّة؟ وفيمَ تتمثّل تجلّياتُها الممكنة إتيقيًّا وسياسيًّا في مجال الممارسة والحياة؟
1 – في المعنى المفتوح للعقل
1.1 تَشكَّلَ مفهومُ التّعقّليّة في سياق نظريّ وعمليّ واضح، هو سياق المراجعة الجذريّة للعقل وتفكيك النّسيج الدّغمائيّ الّذي حاكته الفلسفةُ فهمًا نهائيًّا للعالم ونسقًا مغلقًا لعقلنةِ الوجود والمجتمعات عقلنةً هوويّةً شموليّةً[5]. وكانت حربُ الخليج وما تبعها من نتائج كارثيّة مناسبةً للعودة إلى الذّات قصد تخليصها من سطوة “العقل العكاظيّ” ومن استبداد الثّنائيّات الّتي أجهضت كلّ سؤال جدّي حول راهننا العربيّ والكونيّ وعطّلت انفتاح العقل على الحياة[6].
ولئن كان حضور كنط ذا وجاهة في هذا المشروع النّقديّ، فإنّ التّريكي اختار أن يكون الفارابي أساسَا له. وذلك لأنّ المعلّم الثّاني يمثّل تلك الإمكانيّة الفلسفيّة الأصيلة لربط العقل بميدان الأخلاق والإتيقا، ومن الوجاهة إذن تفعيلُه في مواجهة “العقل الأدواتيّ الصّارم والمهيمن الآن”[7]. فالعقل لن يجد انفتاحه مجدّدًا إلاّ في تلك المساحات الأخلاقيّة والإتيقيّة الّتي انبسطت في اللّوغوس الإغريقيّ والفرونيزيس الأرسطيّ لا محالة، وفي التّعقّل الفارابيّ أيضًا وأساسًا.
وقد اقتضى التحديدُ الدّلاليُّ للتّعقّليّة رفعَ الالتباس عن مفهوميْ العقلانيّة والمعقوليّة ووضع عناصر التّمييز بينهما. وذلك لأجل الوقوف على جدّة مفهوم التّعقّل وطرافة الدّلالة الفلسفيّة للتّعقّليّة. وقد عبّر التّريكي عن هذه الجدّة والطّرافة قائلاً: نسعى إلى اقتراح “مفهوم جديد لم يُستعمَل بعْدُ في خضمّ مفاهيمنا الفلسفيّة العربيّة نحاول التّعبير به عن توجّهٍ عمليٍّ وأخلاقيٍّ مفتوحٍ للعقل. ونعني بذلك التّعقّليّة”[8]. فهذا التّوجّه المفتوح للعقل سياسيًّا وأخلاقيًّا هو الدّلالة الأساسيّة لمفهوم التّعقّليّة، وهو الضّامن لإمكانيّة العيش المشترك ولكلّ ضروب التّآنس بما في ذلك التّجربة الجماليّة. فكيف ذلك؟
إذا كان العقل هو أساس التّفكير النّظريّ المتعلّق بالمعارف المجرّدة، فإنّ التّعقّل هو أساس التّفكير العمليّ المتعلّق بالشّرط السّياسيّ لوجود الذّات وبشؤون الإنسان العمليّة والحياتيّة. وقد استفاد التّريكيّ هذا المعنى من خلال قراءته لنصوص الفارابي مثل رسالة في العقل و فصول منتزعة حيث حدّد الفارابي معنى التّعقّل وكشف عن تجلّياته الممكنة في التّدبير المنزليّ والتّدبير المدنيّ والتّدبير الإنسيّ. ومن منطلق هذه القراءة لمفهوم التّعقّل حدّد التّريكي معنى التّعقّليّة في “العيش حسب مقتضيات العقل”[9]. فالعيش المشترك يتطلّب حضورًا عمليًّا وعموميًّا للعقل حتّى لا تكون العلاقات الإنسانيّة تحت سطوة الانفعاليّة والانطباعيّة والمصلحيّة.
وهكذا يكون التّعقّل إقحامًا للعقل في معترك الممارسة والحياة. بل إنّ التّعقّل عقلُ الممارسة، وهو المرجع في التّعقّليّة[10] بوصفها فلسفةً سياسيّةً وفلسفةً في الحياة اليوميّة. وقد استند التريكي في بلورة التّعقّليّة إلى إقرار مبدئيٍّ بــ “قابليّة السّلوك البشريّ العامّ وممارساته المختلفة لأن تتحدّد بواسطة التّعقّل”[11]. فما هو الدّور الّذي يمكن أن يضطلع به مفهوم التّعقّل بالنّظر إلى وضع الفلسفة المعاصرة ومن منظور مهامّها النّقديّة من ناحيّة، وبأيّ معنى تمثّل التّعقّليّة محاولةً جادّةً لطرح السّؤال الجذريّ عن الوضع العامّ للبشريّة اليوم من ناحية أخرى؟
2.1 إنّ تحوّل الفلسفة حديثًا إلى حاضنة للعلوم، بعد أن كانت في العصر الوسيط خادمةً للاّهوت، لمْ ينقذها من الإخفاق. بل إنّ هذا التّحوّل لم يكن في حقيقة الأمر إلاّ اكتمالا للفلسفة من حيث هي ميتافيزيقا كما نبّه على ذلك هيدغر[12]. فالفلسفة قد ألغت ذاتها لصالح العقل العلميّ التّقنيّ. وهذه الهيئة الأداتيّة للعقل هي الّتي حرمت الفلسفةَ من انفتاحها وأفرغت اللّوغوس من معنى التّخاطب والتّساكن الّذي يفترضه[13]. لقد انغلق العقل نظريًّا في نسق التّماثل والتّشميل الهيغليِّ وانخرط عمليًّا في مشروع الهيمنة[14].
تسعى الفلسفة اليوم في مختلف مشاريعها النّقديّة إلى الكشف عن المسافة الفاصلة بين الوجود والعقل حتّى لا تتحوّل المعرفة إلى إدّعاء دوغمائيّ، وعن المسافة الفاصلة أيضًا بين الحقّ والسّلطة حتّى لا تتحوّل الدّولة إلى نظامٍ كلّيانيٍّ مستبدّ. وإذا كان فتحي التّريكيّ قد انخرط في هذه المشاريع النّقديّة بوصفها ضربًا من التّساؤل الجذريّ عن مشروعيّة العقل المعرفيّة والسّياسيّة، فإنّ ذلك لم يقده إلى التّخلّي عن الطّابع المقوليّ أو المفهوميّ للفلسفة، كما لم يضطرّه إلى تبنّي الموقف ما بعد الحداثيّ الدّاعي إلى تقويض الفلسفة وتجاوز العقلانيّة. بل ظلّ أستاذنا منافحًا على الفلسفة بشرط انفتاحها ومنتصرًا للعقل في تعيّناته الإنسانيّة المختلفة.
فالعقل لا يتخلّى عن المفهوم إلاّ وقد فقد طبيعتَه في آن. كما أنّ الفلسفة الّتي تصل إلى المعيش مباشرةً لا تصل إليه إلاّ بنمط من التّفكير هو النّمط الإقراريّ الكلّيّ[15]. وإذا كان المنعرج ما بعد الحداثيّ قد يغري بعض المفكّرين العرب ويزيّن لهم الإعلان عن موت العقل ونهاية الفلسفة دفاعًا منهم عن عرفانيّة الشّرق وبيانيّة الفكر العربيّ، فإنّ الفيلسوف فتحي التّريكيّ باشر مهمّة الكشف عن عقلانيّةٍ ممكنةٍ عند العرب سواءً بالبحث في تاريخ العلوم عند العرب الّذي افتتحه بكلّية الآداب العلوم الإنسانيّة بصفاقس سنة 1995 أو بالاشتغال على مفهوم التّعقّل الفارابيّ منذ سنة 1997 على الأقلّ. وقد دفعنا ذلك إلى المشاركة في مجمل المباحث الّتي عرضتها مؤلّفات التّريكي وذلك بإنجاز أطروحة الدّكتوراه في فلسفة الموسيقى عند الفارابي حيث انتهينا إلى صياغة مفهوم الموسيقى التّعقّليّة من حيث هي ضربٌ طريفٌ في استنباط عقلانيّة الفنّ[16].
وهكذا يمكن القول إنّ العقلانيّة التّواصليّة كما صاغها هابرماس والعقلانيّة النّقديّة كما بلورتها مدرسة فرنكفوت والعقلانيّة الإجرائيّة كما تجلّت سياسيًّا في نظريّة العدالة عند راولس قد قادت التّريكي إلى إعادة النّظر في البعد العقلانيّ النّظريّ والعمليّ عند فلاسفة العرب. وفي إطار هذه القراءة الحديثة للفلسفة العربيّة يندرج قول التّريكي: “مفهوم التّعقّليّة الّذي أقترحه هنا يتحدّد أساسًا داخل هذا الحقل الإشكاليّ لأنّه من منطلق تراثيٍّ يعود بنا أيضًا إلى معنى للعقل قد تناسيناه يبحث عن إعادة الاعتبار للعقل بعد الهزّة الكبرى الّتي كما يبدو لنا قد صبغته بصورة الهيمنة، هيمنة الغرب على مجتمعاتنا”[17].
يسعى التّريكي إذن إلى الخروج بمعنى التّعقّل الفارابيّ من أرضيّته الميتافيزيقيّة وإطاره المذهبيّ المتعلّق بنظريّة الملكات النّفسيّة والعقول المفارقة، إلى ميدان أوسع يؤدّي فيه الدّورَ التّحرّريّ للفلسفة[18]. ومن هذا المنظور العمليّ يعرّف التّريكي التّعقّليّة على هذا النّحو: ” فالتّعقّليّة إذن هي ارتباط العقل النّظريّ بالعقل العمليّ… وبتعبير آخر تربط التّعقّليّة الحقيقةَ بالنّجاعة بحيث لا تكون النّجاعة العمليّة مضادّة للحقّ لأنّها بهذا التّضادّ ستكون حسب الفارابي خبثًا ودهاءً. ولن تكون الحقيقةُ منفصلةً عن النّجاعة لأنّها ستصبح عندئذ فارغة وبدون جدوى”[19]. فالتّعقّليّة إذن انفتاح العقل على الوجود والحياة لا لأجل هيمنة المعرفة على الحياة، وإنّما لأجل التّناغم تحقيقًا لسعادة الحوار والتّآنس. فما هي المجالات الممكنة لتطبيق هذا التّصوّر التّعقّليّ المنفتح للفلسفة؟
2 – تَطْبِيقان مُمْكِنان للتّعقّليّة
1.2 يتجلّى التّمييز الّذي وضعه التّريكي بين المعقوليّة والتّعقّليّة في عنوان الفصل الثّالث من الباب الثّالث من كتاب العقل والحرّية: “معقوليّة الحرب وتعقّليّة السّلام”. فإذا كان الفكر السّياسيّ يعالج الحرب بحثًا عن معقوليّة مَّا لدوافعها ونتائجها فإنّ الفلسفة تعالج مسألة السّلم من جهة شروط إمكانها ووجاهتها الإتيقيّة. وذلك لأنّ من طبيعة العقل الفلسفيّ السّعيُ إلى رفع التّناقض والتّنافي. فالفكر الّذي يمحو الحربَ داخله حقيقٌ به ألاّ ينظّر لها خارجه. والفكر الّذي يطلب عدم التّناقض الدّاخليّ لا يستطيع التّفكير خارجيًّا إلاّ في السّلم.
الفلسفة غير قادرة على تأسيس خطاب في الحرب والعنف لأنّهما بالنّسبة إليها عديمَا المعنى. فالمعنى الوحيد للحرب فلسفيًّا هو إبطالُ إمكانها وتعريةُ معقوليّتها الزّائفة. ولمّا كانت السّلم هي الضّامن الوحيد للحرّية والتّعايش فإنّ للفيلسوف دورًا ينبغي أن يضطلع به ضدّ هيمنة الإستراتيجيّ الّذي هو دائمًا “المحلّل المختصّ في فيزياء الموت ووسائل الخراب بصفة علميّة وموضوعيّة”[20]. إذ “كيف يمكن لقوى الدّمار والعنف أن تكون معقولةً؟”[21] وكيف يمكن للعقل وقد صار ميتا- إستراتيجيا أن يبني ميتافيزيقا الحرب على نحو يصير معه القتل والدّمار معقولين فلا يقلقان الضّمير الأخلاقيّ للإنسانيّة؟
إنّ معقوليّة الحرب تحدّدها الميتا- إستراتيجيا حيث تصبح الحرب عمليّة ضروريّة للحفاظ على المصالح وحيث يصير التّمييز بين حرب عادلة وحرب غير عادلة أمرًا ممكنًا ومشروعًا. والأخطر من ذلك أنّ المعقوليّة الرّاهنة تعمل في تبرير الحرب على تجاوز الظّرفيّ والنّسبيّ وعلى البحث عن أساس لعدالة الحرب في المعايير الكونيّة للحقوق. والأدهى من ذلك أنّ الإستراتيجيّ لم يترك للميتا- إستراتيجيّ مهمّة بناء النّسق الفكريّ أو الإيديولوجيّ المصاحب للحرب، بل صار العسكريّ مدبّرا للحرب ومبرّرا لها في آن. معقوليّةُ الحرب الرّاهنةُ تجعل من رجل الحرب عسكريًّا ومثقّفًا في الوقت ذاته[22] وذلك لأنّ “نواة المعقوليّة في النّظام العالميّ الجديد هي معقوليّة الحرب”[23].
وفي مقابل معقوليّة الحرب يصوغ التّريكي تصوُّرًا بديلاً تحت عنوان “تعقّليّة السّلم”. فـ”التّعقّليّة من حيث هي عقل وحرّية هي الضّامنة لقيام سلم مستمرّة”[24] وذلك لأنّها تبحث باستمرار عن الشّروط العقليّة العمليّة للتّعايش والتّساكن. فالسلم إذن هي “هدف التّعقّل الأقصى في السّياسة”[25]. ولا يتحقّق هذا الهدف الأقصى سياسيًّا ما لم تُعِد الفلسفةُ طرحَ السّؤال عن الشّرط الإنسانيّ ونمط الوجود اليوميّ للإنسان. ومن هذا المنظور تكون الكتابة في فلسفة الحياة اليوميّة من أكثر المهامّ التّعقّليّة إلحاحًا.
2.2 أدرك فتحي التّريكي آليّات ” الفكر الكليانيّ ” مبكّرًا وأخضعها لعمليّة تفكيكيّة عميقة. وكان يدافع منذ التّسعينات من القرن الماضي عن “فلسفة التّنوّع” و “فلسفة المقاومة”[26] ويبحث بجدّيّة الفيلسوف الحرّ عن الشّروط الكفيلة بتحقيق الحرّيّة والكرامة. وقد أدرك الفيلسوفُ فتحي التّريكي أنّ الشّروط السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة غير كافية بذاتها لتحقيق الحرّيّة والكرامة خاصّةً متى صارت مجرّد “إجراءات” يفرغها العقلُ الأداتيُّ الحسابيُّ من مضامينها القيميّة.
وإذا كانت أزمة العقلانيّة اليوم تكمن في هذا الاختزال الأداتيّ للعقل وتوريطه في مشاريع الاستغلال والهيمنة، فإنّ الفلسفة لا يحقّ لها مع ذلك الانقلابُ العبثيُّ على العقل كما يدعو إلى ذلك أعلامُ الفكر ما بعد الحداثيّ، وإنّما عليها أن تعيد العقلَ إلى أفقه الإنسانيّ نظريًّا وعمليًّا حتّى يصير تعقّلاً بالمعنى الفارابيّ.
ومن منطلق الانتصار لعقلانيّة نقديّة تواصليّة منفتحة صاغ التّريكي أهمّ مفاهيمه الفلسفيّة وذلك في سياق الكشف عن العمق الإتيقيّ والجماليّ لحضور الإنسان في العالم ولإقامته المشتركة في المعمورة. فما هي أهمّ المنطلقات الّتي استند إليها فيلسوفنا في استشكال هذا المعنى الإتيقيّ للعقل وفي بناء فلسفة للحياة اليوميّة ؟ وما هي القرارات الفلسفيّة الأساسيّة الّتي اتّخذها لأجل التّحرّر من سلطة الأنساق الفلسفيّة المغلقة المعادية للتنوّع وللمجتمع المفتوح؟ وفيم تتمثّل الرّكائز الكبرى لثقافة التّقدّم وفلسفة التّآنس إذن؟
تأخذ إشكاليّةُ العلاقة بين النّظريّ والعمليّ عند التّريكي صيغةً طريفة تبنيها قراءتُه النّقديّةُ للفلسفة المعاصرة، وهذه الصّيغة هي: كيف يمكن تجاوز الإميّة الزّائفة الّتي وجد العقلُ الفلسفيُّ نفسَه فيها اليوم: إمّا جيل دلوز أو هبرماس؟ أي إمّا أن تكون الفلسفةُ تفكيرًا “خاصّيًّا” منسحبًا من فضاء الحوار العموميّ فتفقد الفلسفةُ بذلك صداقةَ “العموم” (حضورها في الواقع) وإمّا أن تكون عمليّة تواصليّة عموميّة باحثة عن اتّفاق ممكن بين الجميع فتفقد بذلك صداقة “المفهوم” (الصّرامة المعرفيّة)[27]. هذه الإمّيّة زائفة ومغلوطة في نظر التّريكي وذلك لأنّ صداقة العموم ممكنةٌ عنده دون إفساد صداقة المفهوم. بل إنّ الجمع بين الصّداقتين ضروريٌّ ما دام المجال الأمثل للتّفلسف هو مجال الحياة المدنيّة السّياسيّة ومجال الوجود اليوميّ المعيش والمفكّر فيه.
وقد تبنّى التّريكي في بلورة فلسفة الحياة اليوميّة التّمييز الفارابيّ بين الفيلسوف الحق والفيلسوف البهرج: فالبهرج هو المفكّر المعزول عن النّاس والّذي يسعى إذا نزل من برجه العاجيّ إلى ممارسة الوصاية عليهم. “وهي حالة قد يتمّ تشجيعها سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا”[28]. وقد بلور الفيلسوف فتحي التّريكي الأسس الفلسفيّة لـ “ثقافة التّقدّم” في كاتبه فلسفة الحياة اليوميّة[29]. وتتمثّل هذه الأسس في:
أ- الحرّيّة: وتعني حقَّ الفرد في ألاّ يخضع إلاّ لقانون تمّ إقرارُه ديمقراطيًّا. وللحرّيّة أبعادٌ مختلفة تتكامل في تحسين الوضع البشريّ. ويستلهم التّريكي المعنى الفلسفيّ للحرّيّة من أعمال كنط الّذي كشف عن المقتضيات التّربويّة لتحسين الوضع الثّقافيّ والمقتضيات القانونيّة لتحسين الوضع المدنيّ والمقتضيات الدّينيّة لتحسين الوضـع الأخلاقيّ. يقـول التريكي في هذا السّياق: ” فالتّربية والقانون والدّين هي وسائل ناجعة لتنمية إنسانيّة الإنسان بشرط أن تكون هي أيضًا مبنيّة على مبدأ الحرّيّة: تربية حرّة وقوانين تضمن الحرّيّة ودين حرّ يقبل حرّيّة الفرد ويعتمدها. ذلك ما يحتاجه الإنسان ليبلغ أقصى مستويات الإنسانيّة”[30].
ب- المدنيّة: وتعني استقلاليّة الحياة المدنيّة عن كلّ العناصر الغيبيّة الّتي قد تكون ذريعةً للمهيمنة على الإنسان وتعطيل الرّشد العقليّ فيه. وتعني المدنيّة أيضًا تحقيق الشّرط الموضوعيّ لتجاوز الانفعاليّة الغرائزيّة الّتي قد تحوّل واقع الحريّة إلى حالة صراع مدمّر. فالتّذاوت والتّواصل الحرّ داخل المدينة يكون إمّا بـ “المحبّة التّسالميّة” أو بـ “المواجهة التّنافسيّة”.
ج- التّعقّليّة: وتعني تجذير العقل في حياتنا العمليّة وفي اليوميّ دفاعًا عن إتيقا العيش المشترك وما تفترضه من الإقرار المبدئيّ بالتّنوّع (ضدّ الهويّة الآحاديّة والاختلاف المحض في آن) والحرّية المقاومة (ضدّ اللامبالاة والانسحاب) والترحّل (ضدّ الإقامة النّهائيّة في نسق عقائديّ دوغمائيّ مغلق).
د- الغيريّة: وهي أساس الفلسفة التّقدّميّة المتجذّرة والمنفتحة في آن. فالغير يسكن الوعي منذ البدء ويكوّنه ويكشف عنه. وفي قلب الهويّة تقيم الغيريّة. وهكذا فإنّ الوجود في جوهره وجودٌ- معًا. غير أنّ الوجود – معًا محتاج دومًا لأساس تعقّليّ يحميه من كلّ أشكال العنف والإقصاء ويصيّر الغيريّة إلى توافق وتواصل وضيافة فيما يسمّيه التّريكي بــ “الغيريّة المتسالمة”.
نلاحظ إذن أنّ التّعقّليّة ذات دور أساسيّ في بناء فلسفة في الحياة اليوميّة وذلك لأنّها تقحم العقل في مشاغل الإنسان وفي النّقاش العموميّ المتعلّق بمقتضيات العيش المشترك. “فالتّعقّلية باحتوائها للعقل والحرّية… تؤكّد على أنّ الإنسان… ليس روبوتيًّا ولا منتوجًا آليًّا مرتبطًا ارتباطًا تكنولوجيًّا بمصيره. إذ الإنسان يحيا ويفكّر، يعي ويقرّر، يبدع وينظّم. وهو بذلك يعبّر عن طبيعته الحرّة المتعقّلة. هكذا إذن تكون التّعقّليّة سلوكًا في الحياة يعتمد طبيعة الإنسان من حيث هو مالك لأعماله وتفكيره ومسؤول عنها”[31].
تعمل قيمُ الحرّية والإبداع على بناء بديل عقلانيّ ثقافيّ وجماليّ يقطع مع العقل الأداتي الحسابيّ المنغلق. فكيف يتسنّى لنا تحريرُ فكرة التّقدّم من الدّور الذّرائعيّ الّذي لعبته لتبرير حركات الاستعمار والأنظمة الدّكتاتوريّة الكليانيّة؟ وبأيّ معنى نحن في حاجة اليوم إلى إحياء ثقافة التّقدّم في الوعي والممارسة؟ وضمن أيّة شروط يمكن “أنسنة” التّقدّم سياسيًّا وإتقيًّا؟ كلّ هذه الأسئلة تقتضي إعادة التّفكير جذريًّا في مادّة وجودنا الآن وإحداثيّات الواقع المعيش الرّاهن أي في الحياة اليوميّة بمختلف تجلّياتها في زمن العولمة. وفي ذلك تكمن مهمّة التعقّليّة كما اقترحها التّريكي في معظم مؤلّفاته.
[1] فتحي التّريكي، مقدّمة كتاب جماليّة العيش المشترك. عمل جماعيّ. إشراف فتحي التّريكي. دار الوسيطي للنّشر، تونس، 2012. ص. 5.
[2] ن.م. ص. 6.
[3] انظر كتاب، العقل والحرّية. دراسة في التّعقّليّة. تبر الزّمان، تونس، 1998. حيث وقّع فتحي التّريكي مقدّمته بتاريخ 05 أكتوبر 1997 وقد كان حينها عميد كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس. وقد خصّص فتحي التّريكي للتّعقّليّة الفصل الثّالث من الباب الأوّل من هذا الكتاب، وهو يمتدّ من الصّفحة 35 إلى الصّفحة 58. وفي سنة 1998 أيضًا صدر بباريس عن دار أركنتار للنّشر كتابُ، La stratégie de l’identité.
وفيه أيضًا يخصّص فتحي التّريكي للتّعقّليّة الفصل الرّابع من الصّفحة 79 إلى الصّفحة 86 تحت عنوان Raisonnabilité . وقد ترجم نور الدّين السّافي وزهير المدنيني هذا الكتاب تحت عنوان، الهويّة ورهاناتها. المتوسّطيّة للنّشر، تونس، 2010. الفصل الرّابع: التّعقّليّة. ص. 74- 80.
[4] انظر في ذلك، Philosopher le vivre ensemble. L’or du temps, Tunis, 1998
[5] انظر، العقل والحرّية. دراسة في التّعقّليّة. ص. 36.
[6] انظر، ن.م. ص. 5 – 6.
[7] ن.م. ص. 36.
[8] ن.م. ص. 38.
[9] انظر، ن.م. ص. 38.
[10] انظر، ن.م. ص. 39.
[11] ن.م. ص. 39.
[12] انظر، ن.م. ص. 40.
[13] انظر، ن.م. ص. 40.
[14] سقط العقل الحديث في الفهم التّبريريّ للواقع وفي هيكلة حسابيّة للحياة العامّة، ففقد بذلك القدرة على التّشريع وعلى توليد الاختلاف. واتّخذ العقل الحسابيّ أشكالا مختلفة من الهيمنة حدّدها فتحي التّريكي في الشّكل التّقنيّ والشّكل الاقتصاديّ والشّكل السّياسيّ. انظر، ن.م. ص. 42 –43.
[15] هذا هو مضمون الاعتراض الّذي توجّه به أدورنو ضدّ هيدغر. انظر، ن.م. ص. 41.
[16] شرعنا في ذلك منذ سنة 1998 وناقشنا هذه الأطروحة سنة 2008. وكانت تحت إشراف الأستاذ فتحي التّريكي. أطروحة منشورة سنة 2018، دار مكتبة علاء الدين للنَّشر، صفاقس- تونس. بالشراكة مع مخبر مقاربات الخطاب بكليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة، جامعة صفاقس.
[17] العقل والحرّية. دراسة في التّعقّليّة. ص. 43.
[18] انظر، ن.م. ص. 44.
[19] ن.م. ص. 47.
[20] ن.م. ص. 135.
[21] ن.م. ص. 137.
[22] انظر، ن.م. ص. 137 – 139.
[23] ن.م. ص. 141.
[24] ن.م. ص. 142.
[25] فتحي التّريكي، الهويّة ورهاناتها. ص. 78.
[26] كما تجلّى ذلك مثلا في مؤلّفاته، قراءات في فلسفة التنوع (1988)، الفلسفة الشريدة (1988)، الروح التاريخية في الحضارة العربية الإسلامية (1991)، فلسفة الحداثة (1992).
[27] انظر، تأصيل الحداثة وتحديث الكيان. مقال منشور في مجلّة كلمات. عدد 05 . جوان – جويلية 2012.
[28] انظر، ن.م.
[29] فلسفة الحياة اليوميّة. الدّار المتوسّطيّة للنشر، بيروت – تونس، 2009.
[30] ن.م. ص. 80- 81.
[31] العقل والحرّية. ص. 149.