جميعنا يعلم بأن الماء أساس الحياة، لكن قد لا يعلم الكثير بأن الثقة تشبه الماء من حيث أهميتها في نجاح أي علاقة بين شخصين أو مجموعة من الأشخاص بما في ذلك العلاقة بين المؤسسات وصولا إلى العلاقة بين الحكومات وشعوبها. وسأروي لكم قصة طريفة ومعبرة في هذا المجال. حيث أراد أحد الرؤساء التنفيذيين لكبرى الشركات، أو ما يعرف عندنا بالرئيس المدير العام، تعيين خليفته من داخل الشركة بدل البحث من خارجها، وقرر أن يكون الاختيار من قائمة مساعديه الحاليين. وقبل انتهاء فترة رئاسته للشركة ببضعة أشهر صارح جميع المرشحين لخلافته بالموضوع، وأبلغهم بأنه سيفتح منافسة بينهم من أجل الفوز بالمنصب. وتمثلت المسابقة في حصول كل مرشح على مجموعة من البذور على أن يلتقي الجميع في الموعد المحدد لعرض ما سيحصلون عليه من نباتات. أحد المرشحين الجديين كان يرى في نفسه الكفاءة والرغبة على تحمل مسؤولية قيادة الشركة، بادر منذ الساعات الأولى في البحث عن المساعدة بالتنسيق مع زوجته وبحثا في دفتر عنواين الأصدقاء ممن لهم خبرة في مجال الزراعة وعلوم النباتات والأسمدة وأخذ بكل أسباب النجاح وزرع البذور في أفضل الظروف ليحصل على أسوء نتيجة في خيبة أمل أولى. بعد حيرة في تحديد الأسباب قرر الإعتماد على الذات والبحث بنفسه في شبكة الأنترنت والإستفادة من كل مصادر المعلومات لعله يظفر بأفضل ما يمكن من نبات. وكانت الخيبة الثانية! قبل بالنتيجة لنفاذ الفترة المتفق عليها، وبعد تفكير عميق قرر أن يأخذ معه وعاء فارغا. ويوم الإمتحان يكرم المرء أو يهان، والتقى المرشحون وهم بزرعهم يتفاخرون. تجول الرئيس التنفيذي للشركة وسط الجمع وهو في غاية الدهشة من روعة النباتات، ثم استوقفه الوعاء الفارغ فسأل عن صاحبه. فتقدم المعني في تواضع وخجل من فشله ونتيجته مستعدا لجميع أنواع ردود الأفعال. وكان ما لم يكن في الحسبان، حيث تم تقديمه على أنه المرشح الفائز ليكون الرئيس التنفيذي للشركة في قادم الأيام أمام دهشة واستغراب الجميع حتى تبيان سبب الفوز. ثمّ أوضح مهندس المسابقة بأن البذور التي سلمت لجميع المرشحين فاسدة ولا يمكن لها أن تنبت. والفائز ليس سوى المرشح الوحيد الذي تحلى بالصدق والأمانة وهو الجدير بثقة الرئيس المتخلّي.
درس جميل في الثقة وفي أهميتها كمعيار أساسي لاختيار القادة، وأغلب الخبراء في التوظيف حاليا يتوجهون لاعتماد الأخلاق والسلوكيات كاولوية الأولويات، لأنه يمكن تعليم المنتدبين الجدد المهارات والمعارف الضرورية، في حين يصعب تربيتهم من جديد في عمر الشباب!
وبما أن العلاقة بين المواطن والدولة لا تختلف في واقع الأمر عن بقية العلاقات. فإذا كان منسوب الثقة مرتفعا بين الأب وأبنائه، رأيت نجاح الأسرة، وتضحية الأبناء، وقبولهم بالواقع رغم قساوته أحيانا، فيأكل الأبناء مما توفر لهم، ويرضون بملابس متواضعة أو مستعملة، ويعولون على أنفسهم من أجل مساعدة العائلة وتفادي أي نوع من الكماليات التي قد ترهق كاهل العائلة. أما إذا افتقدت الثقة بسبب إغداق أحد أفراد الأسرة على نفسه ما يحرم منه الآخرون، وفي غياب التقاسم العادل للإمتيازات والتضحيات، وغياب المصارحة والشفافية بين أعضاء الأسرة، فطبعا ستكون النتيجة كارثية.
وبالقياس يمكن تعميم الأمر على الشركات والمؤسسات، حيث تجاوزت كبرى الشركات العالمية أزمات كبيرة بسبب الثقة العالية التي تميز العلاقة مع الموظفين. هذه الثقة هي مصدر الشعور بالإنتماء، فالكل يعمل ويكد على أساس أنها شركته. كان على الموظفين كمثال أن يختاروا بين تقليص عدد العاملين بالشركة، أو تقليص ساعات العمل والرواتب مع المحافظة على جميع الموظفين، فاختار الجميع تقاسم التضحية بعدل، وسرعان ما عادت عجلة الإنتاج إلى وضعها الطبيعي. الأمثلة الناجحة كثيرة، وكل ما علينا هو البحث في الأسباب والإستفادة منها.
في دول اسكندنافيا، رأيت بنهاية العام حديث الجميع عن تسوية وضعياتهم الجبائية طوعا ! هي ثقافة، نموذج حياة لعلاقة متميزة قوامها الثقة بين الدولة والمواطن. يعلم المواطن علم اليقين بأن ما يدفعه من ضرائب سيعود له بالنفع، سيوفر له مستوى راقي من الخدمات العمومية كالتعليم والصحة والنقل والبنية التحتية المتميزة والمتمثلة في تهيئة المدن والأحياء السكنية كأفضل ما يكون، والطرقات، والحدائق، والملاعب الرياضية، والمسارح، والتنويرالعمومي، وشبكات المياه … على سبيل الذكر لا الحصر.
قد يطول ويطول سرد أمراض الدول التي اختارت الظلام بدل النور، والولاء للخارج بدل الأوطان، والتستر على الفساد بدل محاربته، هاته الأنظمة التي اختارت التحايل بشتى الطرق على شعوبها ولو اقتضى الأمر بتمرير قوانين في غفلة من الناس، واعتماد سياسة العتمة بدل الشفافية، والتلاعب بالمؤسسات والقوانين كما تشاء ضمانا لبقائها في السلطة، واعتماد جباية غير عادلة، وتحميل كل التضحيات على الشعب المسكين، والاستفراد بالقرارات، والتمعش بما أعطوا من صلاحيات، وتخصيص أنصارهم دون غيرهم بالإمتيازات كالتوظيف والترقيات والتعيينات في المناصب العليا للدولة والمؤسسات دون احترام الحد الأدنى من الكفاءة. هذا غيض من فيض، ثم يتسائلون وكأنهم لا يعلمون سبب الاحتقان!
قد يظن البعض بأن الدول أو الحكومات تنجح باحترام الشعب لشرعية الانتخابات. لا أريد الخوض في الأرقام أو في ظروف الانتخابات لكن سأعطي مثالا من نتيجة لبحث في علاقة بقطاع الأعمال والشركات عن نسبة العملاء (الحرفاء) الذين يتقدمون بشكاوى عند تعرضهم لسوء معاملة. أتدرون بأن هذه النسبة هي أربعة في المائة فقط! أتدرون بأن الأغلبية الساحقة تتعرض لمظالم يومية لكنها لا تحكي عنها سوى في المجالس المغلقة مع الأصدقاء أو في الشبكات الاجتماعية؟ الأسباب مختلفة ومتنوعة مثل عدم انتظارهم لأي ردة فعل إيجابية، أو خوفا من تبعات شكواهم، أو مجدرد تجاهل.
أتدرون بأنه لو اعتمدنا هذه النسبة في العلاقة بين المواطن والدولة لاستنتجنا أن بالتوازي مع كل شخص مشتكي معبرا عن سخطه، هنالك أربعة وعشرون مواطنا يتحملون الظلم والقهر في صمت!
ليس بهكذا علاقة تبنى الأوطان، نحتاج لشراكة بين الدولة والمواطن مبنية على الثقة المتبادلة، وعلى كل مسؤول المبادرة فورا ببناء الثقة أو استعادتها مع المواطن من خلال اعتماد الخطاب الواضح والمباشر بدل الألغاز والمراوغة، بمصراحة المواطن واعتماد الشفافية، وباحترامه والاعتراف بدوره المحوري في أي نجاح، وباستشارته وإطلاعه على كل القرارات، والإيفاء بالوعود والالتزام بها، وبتشجيع الناجحين ومحاسبة المقصرين.
الثقة هي الحلقة المفقودة لتحقيق أي نجاح، هي كما أسلفت مثل الماء ودوره الرئيسي في الحياة.