إن ما يجري الآن في تونس منذ مساء يوم 25 جويلية 2021 لحدث هام لا يمكن أن يبقى أمامه أي مواطن دون موقف سواء اتسم هذا الموقف بتغليب العقل أو بالاندفاع العاطفي، والمفروض أن التونسيين، كما يتردد في الخطب الرسمية، تعلموا من هذه العشرية أحد مبادئ الديمقراطية وهو قبول الاختلاف في الرأي وفي غيره لأجل الصالح العام.
شخصيا، رغم كل ما سبق من تكهن وآراء، تفاجأت شيئا ما بقرارات رئيس الجمهورية وإن كنت دائما أستحضر إمكانية حدوثها؛ ذلك أني كنت أشك في إقدام الرئيس على خطوة مثل هذه. لكنه أقدم عليها في النهاية فتباينت المواقف لكن غالبية المواطنين والمثقفين ساندوا التمشي بكثير من الحذر وهو ما يجب. لذا تريضت قليلا ثم دونت تعليقا على صفحتي هو الآتي: “إنها لحظة تاريخية مصيرية افتتحها رئيس الجمهورية ليتولى الشعب استكمالها”.
عند تأمل التعليق موضوعيا، يمكن التفطن إلى أنه لا يصطف في جانب ولا في آخر من طرفي النزاع وأنه يؤكد فقط على خطورة المرحلة التاريخية التي فتحتها قرارات الرئيس وعلى ضرورة أن يتولى الشعب تحمل مسؤوليته كاملة في السير بها لما هو أفضل للبلاد والعباد.
لكن، عندما نظرت في التعاليق الأولى على ما كتبت، وجدتها تكاد تجتمع على الاتفاق معي في الرأي ما عدى صوتين من شباب بلدتي (إذن بنسبة % 4 من المعلقين في تلك اللحظة) هزهم الانفعال إلى تخطي حدود اللياقة التحادثية وأعتقد أن الأمر لا يتعدى تلك اللحظة وأن العقل سيفرض ما يتوجب في وضعية الحال. على كل، لم أنفعل وأجبت على كل ما ذكر برصانة واحترام إلى أن توقف محدثي، إيمانا مني أن ذاك هو السبيل السليم لكل نقاش وكل محادثة مهما عظمت خطورة الموضوع المطروح.
لكن دعنا نعود لبعض النقاط التي أثيرت هنا وهناك تجاه قرارات رئيس الجمهورية الذي اعتبره البعض انقلابا على الشرعية الانتخابية. ودعني أذكر أنني لم أكن يوما من المتحمسين لقيس سعيد (على غرار المتشنج ضدي وهو الذي كان يضع صورة قيس سعيد منمقة على صفحته) ولا لغيره من الطبقة السياسية الحالية رغم أني في كثير من مراحل التغييرات المتتالية قلت في بعضهم: “لما لا؟” (Why not ? / Pourquoi pas ?) فخاب أملي في ظرف وجيز وصرت أحتاط من الانطباع الأول في الأشخاص، والسياسيين خاصة، إن سلبا أو إيجابا.
إن أول نقطة طرحت هي احترام الدستور.
عن هذا أقول إن الرئيس، بحكم اختصاصه الأكاديمي، تولى قراءة الدستور وتأويله من وجهة نظر لا يجوز نفيها قطعيا ولو أختلف حولها. ربما يتوقف معارضوها عند عبارة: ” ويُعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حلّ مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة”. فتكون الإجابة أن المجلس أصبح أصل المشكل منذ مدة واشتد الاحتقان حوله كما أفرط بعض أعضائه في تهميشه ونزع كل شرعية تسنده أخلاقيا وسياسيا. وأن لائحة اللوم لا تقبل في الحكومة التي ستتولى مرحلة الانتقال. هنا تأتي القرارات في صميم الإصلاح الهيكلي الضروري لإعادة البلاد إلى السير الطبيعي في عملية التنمية والعيش المشترك. وبذلك نفهم قرار رفع الحصانة وتولي الرئيس الإشراف على النيابة العمومية كي تقوم العدالة بدورها وتتطهر الهياكل الحاكمة في مصير المواطنين والوطن.
وعندما يشير السيد راشد الغنوشي إلى أن في ذلك عدم حيادية القضاء، يجدر تذكيره إن القضاء عرف كل المتاهات منذ 2011 ولم تتجرأ الحكومات والأحزاب على الوقوف أمام كل التلاعب الذي قامت ضده الأفراد والجماعات بحجج دامغة.
أما عن احترام الانتخابات، لا بد من الإقرار، بعيدا عن كل “دمغجة”، بنسبية نجاعتها وبشعور الخيبة يكبر من يوم لآخر تجاهها ويحتم ضرورة مراجعة ما يسمى “الديمقراطية التمثيلية”. وهو موضوع يتعين طرحه وتدارسه في هذه المرحلة بالذات من تاريخنا وفي علاقة بتصوراتنا المستقبلية.
يبقى في النهاية المزالق الممكنة للتمشي الرئاسي، والتي لا يمكن إنكارها ولذلك قلت في تعليقي الأول: “يتولى الشعب استكمالها”. اليوم مسؤولية المواطنة في الميزان بالنسبة للجميع كي يتنظم المجتمع بما يضمن قدر الإمكان حماية المؤسسات والقوانين والعدالة بين جميع المواطنين، دون محاباة أو تكتم أو مجاملة أو تواطؤ.
اليوم يتجند المجتمع المدني والمنظمات والجمعيات وكافة الأطر المرافقة لانتقال ديمقراطي حقيقي لا تكون فيه الانتخابات تعلة للتسلط وحماية الفساد والإضرار بسلامة الوطن وبحقوق المواطن.
يقف الكل للمساهمة في تصحيح المسار وفي إرساء منطق التعامل الديمقراطي الذي لا يمكن اختزاله في العملية الانتخابية، خاصة أن عديد المفكرين والمؤرخين أقروا بضرورة إعادة التفكير في مفهوم الديمقراطية وفي أشكال تنظيم الحكم، خاصة ضمن النظام الجمهوري.
لنقل وفقنا الله في حماية الوطن وخدمته بصدق ونزاهة لتحيا تونس حرة منيعة أبد الدهر.