تونس التي كانت تلقب بمطمور روما لما فيها من خيرات وإنتاج وفير يشمل على سبيل الذكر لا الحصر زيت الزيتون والعنب والقوارص والتين والقمح والشعير وغير ذلك من البقول والخضروات والفواكه. تونس اليوم يغرق شبابها في البحر وهو يحاول الإفلات من البطالة والفقر والإهانة باحثا عن كرامة ولو نسبية وراء البحار. تونس اليوم يدمن شبابها على المخدرات والمشروبات الكحولية باحثا عن سعادة مؤقته تنسيه معاناته اليومية، ولضيق الحال يلجأ البعض إلى شرب سوائل أعدت للمداوات أو التجميل معرضين حياتهم للموت. ” تونس اليوم بلاد القوارص” هي تدوينة صادفتني على الشبكات الإجتماعية وصدمتني، هي مثيرة لكل إنسان لم يتوحش بعد، هي تدوينة تدق مجددا ناقوس الخطر على مستقبل شبابنا، ومستقبل بلادنا، لأن القوارص هنا ليست بالمعنى المعروف لغويا بل هي نوع من أنواع العطر التجاري الذي يتناوله بعض الشباب اليائس وقد أدى بكثير منهم للموت أو المعاناة من أمراض مزمنة.
لدينا ثروة بشرية عجزنا في الاستفادة منها فتحولت إلى طاقة مهدورة وأحيانا إلى قنابل موقوته. هذا العجز ليس سوى نتيجة اختياراتنا الفاسدة على جميع المستويات، ونتيجة الاستهتار بالمسؤوليات العليا في الدولة وتكليف عديمي الكفاءة والخبرة في مواقع القرار والفشل الذريع في التخطيط للمستقبل ووضع الإستراتيجيات الضرورية من أجل الاستفادة من ثروتنا الوطنية وهي كما قال فيها بعض الحكماء ” الإنسان هو أعز ما نملك ” .
الجميع يقر بموضوعية الصعوبات التي تعترض البلاد لأسباب اقتصادية أساسا، لكن من يتحمل المسؤولية عليه أن يكون أهلا لها ويتحملها كاملة، وعليه أن يكون أول المقتنعين بأن الحل موجود، ويبعث في الناس الأمل وينشر ثقافة التحدي والمبادرة والنجاح وتحقيق الإنتصارات على كل الصعوبات.
أولى خطوات النجاح والطريق نحو الحل هو إشراك العقل التونسي وعدم إقصاء أي من كفاءاتنا لأسباب واهية أو مبنية على أي نوع من أنواع الفرز. وشخصيا أرى بأنه لدينا من الذكاء ما يكفي لإيجاد الحلول لجميع مشاكلنا اذا تخلصنا من الغباء السياسي وعبادة الكراسي. الحل تونسي ووطني مائة بالمئة ولن يكون من وراء البحار. وعلى رأي المثل الشعبي ” ما يبكي لك كان شفرك وما يحك لك كان ظفرك “.
الدول المتقدمة وضعت مراكز بحوث ودراسات تمثل حاضنة للذكاء والمعرفة من أجل دراسة علمية لكل ما يهم البلاد والعباد في جميع المجالات والاختصاصات. سياسات الدولة واستراتيجياتها لا تأتي لا من فراغ ولا من عبث ولا تبنى أيضا على شهوات البعض ومقاساتهم أو في شكل ردود أفعال ظرفية ومتشنجة، والأخطر من كل هذا عندما تكون خدمة لأجندات خارجية أو إملاءات لمنظمات أو مؤسسات مالية دولية.
أسمح لنفسي كمواطن بطرح بعض الأفكار للنقاش والدرس ولا أدعي امتلاك وصفة سحرية لإنقاذ البلاد والعباد مما نحن عليه. ولا أخفي وأني كثيرا ما استمتعت بتحاليل لنخبة هذا الوطن في الداخل كما في الخارج كلما أعطيت لهم فرصة المشاركة في حوارات إعلامية. أكاد أجزم بأن كل التجارب الناجحة على الكرة الأرضية ارتكزت أساسا على نجاح السياسات التعليمية. وبما أن نتائج إصلاح التعليم ليست آنية فإننا في حاجة ماسة لوضع خطة من أجل إنقاذ مئات الألاف من العاطلين، بعضهم من حاملي الشهائد العليا وآخرون قد انقطعوا عن التعليم في أولى مراحله. لهذا السبب وجب علينا تفعيل التدريب بجميع اختصاصته وخصوصا المهني ضمن شراكة بين القطاعين العام والخاص، ويمكن ايضا تشريك الجامعة التونسية والمؤسسة العسكرية في هذا المجهود. ولأن التعليم غير قادر لحاله على صناعة المجتمع الذي نريده، من الضروري الاهتمام بالثقافة والرياضة وتوفير حاضنة سليمة لأطفالنا وشبابنا من شأنها صقل مواهبهم وتوجيه طاقتهم في كل ما هو مفيد وحمايتهم من مخاطر الفراغ. أما في ما يخص التشغيل وإيجاد الحلول لحاملي الشهادات العليا وجب على الدولة إطلاق كل المشاريع الكبرى المعطلة ذات العلاقة بالبنية التحتية للبلاد ومن أهمها المطار الدولي وميناء المياه العميقة بالنفيضة، وتطوير شبكات السكك الحديدية والطرقات السريعة بين كل المدن، وسرعة الربط مع دول الجوار. ولا يفوتني الاشارة بان من أهم الإصلاحات الاقتصادية التي سيكون لها انعكاسات إيجابية على التشغيل هو اصلاح المؤسسات العمومية وإعادة هيكلتها بعيدا عن الحلول السهلة كطرحها للبيع لرأس المال الأجنبي بأبخس الأثمان. هذه عينة صغيرة من الإصلاحات العاجلة تشمل دعوة للتسريع في إنجاز المشاريع الكبرى وإصلاح المؤسسات العمومية، لكن لا بد للحل الشامل ان يتناول كل القطاعات وأخص بالذكر منها التركيز على البحث العلمي وصناعة المعرفة، وإيلاء الفلاحة والصناعات الغذائية ما يستحقان من أهمية، وعدم إهمال أي قطاع لترابط الكل مع الكل.
الحل موجود لو توفرت الارادة وقطعنا مع العبث السياسي وجعلنا أولوية الأولويات مصلحة تونس وشعبها !