مقطع من حوار أجرته مجلة أروقة تحاور الفيلسوف التونسي فتحي التريكي 17 جانفي 2021 . حاوره محمد عادل مطيمط
محمد عادل مطيمط: لم يكن ممكنا للإنسانوية ثم للحداثة في الغرب أن تنتصرا وأن تفرزا حراكا فلسفيا حقيقيا إلا بفضل بروز قوة اجتماعية تاريخية كانت ولازالت بحاجة إلى ذلك الانتصار. ألا ترون أن واقع البؤس الفلسفي الذي يعاني منه العالم العربي ناتج عن عدم وجود قوة اجتماعية حاملة للمشروع؟ هل الحاجة إلى الفلسفة هي فقط حاجة نخب منعزلة عن واقع اجتماعي تهيمن عليه آليات اجتماعية رجعية مضادة لكلّ إنسانوية ولكل تحديث؟ ألا ترون المجتمعات العربية بحاجة أولا إلى حركة إنسانوية تقلب بنية الثقافة بشكل عميق حتى تصبح الحركة الفلسفية ممكنة؟
فتحي التريكي:
لا أوافق كثيرا على فكرة القوّة الاجتماعيّة الوحيدة الحاملة لمشروع العقل التنويري والتحديثي. هناك زمنيّة تاريخيّة تطوّريّة تفرز دائما وأبدا قوى ارتكاسيّة وقوى تقدّميّة. كنت ومازلت أؤكّد أن الحداثة مصيرنا، وأن علينا فتح كياننا على تاريخيتنا لا من حيث إنها تربط حاضرنا بجذورها وبالحضارات التي تعاقبت علينا فقط بل وأيضا من حيث إنها انفتاح على الإقبال والمصير، لهذا فنحن لم نعد بحاجة إلى تأصيل كياننا بقدر ما نحن بحاجة إلى فتحه على الحداثة وعلى مسارها في تمظهرات الفكر العالمي. يعني ذاك أن نخرج من الارتكاس ومن الوقوف على الأطلال ومن البكاء على الماضي وأن نعلن بصوت صارخ عن “القبول الأعلى للحياة” بتعبير نيتشه، وعن تجاوز معاناتنا وذلك بالوعي الكامل باختلافنا عن ماضينا، ولا مناص لنا من حياة اللحظة الحاضرة في الهنا والآن والتي تتحدّد-سواء أحببنا ذلك أم كرهناه- باصطدام الماضي بالمستقبل، ففي هدا الاصطدام يتجسد اختلافنا، وربما يكون ذلك في العودة الأبدية للذات، لكن هذه العودة ليست هي ذاتها في كل مرة. ففي كل عودة يأتي شيء يختلف عمّا سبق، بحيث يكون قفل الحلقة في الاختلاف لا في الهوية وفي الاصطدام لا في التماهي وفي الصراع لا في الاستسلام. صدمة الماضي بالمستقبل ستجعل منا أمة تعيش حاضرها وتساهم فيه وتبدع. وبذلك يكون الإنسان داخل كيانها مشروعاّ، بل سيكون إنجازاّ داخلياّ لإرادة القوة وللنضال من أجل الحياة. لذلك أعتقد أنّ القوى الاجتماعيّة تتموضع كلّها داخل هذه الزّمنيّة التاريخيّة بعضها يجد ضالته في الإرتكاس وبعضها الآخر في التقدّم ومهمّة الفلسفة تلك التي لا تسجن نفسها في تاريخها أو في مدارسها وأكاديميّاتها هي النضال اليومي لتقوية الاتجاه التقدّمي. الإشكال هو أنّ هذه القوى التقدّميّة متنوّعة ومختلفة. ففي الغرب مثلا أخذت اتجاها ليبيراليا فغيّرت منهج تفكيرها الفلسفي وفكرة راولس مثلا في أننا نستطيع تحديد العدالة في اللامساواة الاجتماعيّة تخدم مصالح الليبيراليّة التي تعتمد اللامساواة وتبرّر الاستغلال.
في الظروف الحالية نحن في المجتمعات العربية بحاجة ملحّة لفلسفات تنويريّة تعتمد الإنسانويّة والكونيّة كما تعتمد النقد والتوضيح بواسطة العقل والمنطق بعيدا عن الوجدانيّة الهدّامة. يجب أن يتجذّر ذلك في النخبة الثقافيّة العربيّة التي مازالت تحت وطأة التحريم والمنع كما يجب أن تصل إلى عموم الشعب لتفتح النقاش حول قضاياه الكبرى. ونحن في تونس أحدثنا معيّة ثلّة من الزملاء معهدا “شعبيّا” للفلسفة خارج الأكاديميّات وهو يعمل بصعوبة لا محالة جرّاء البيرقراطيّة والخوف من الفلسفة ولكنّه سيؤدي عمله وسينجح بعزيمتنا ونضالنا لأنه آن الأوان لتحرير كياننا وتحديثه على قاعدة الفكر التنويري.
محمد عادل مطيمط: هل توافقون الظن السائد أن الاسلاميين الذين هيمنوا مؤخرا على المشهد السياسي في كثير من أمصار العالم العربي، يدافعون عن هويّة ما؟ ما علاقة جماعة عالمية، تتحرك فوق التاريخ والثقافات، بالهوية؟ ألا يمكننا اعتبار هيمنة الإسلام السياسي ضربا من “الإبادة الثقافيّة”؟
فتحي التريكي:
كتبت الكثير عن إشكاليّة الهويّة ولاحظت أنّ همّ الشباب العربي هو التأكيد على هويّته التي يعتقد أنّها راسخة ثابتة لا تتغيّر تكوّنت نهائيّا عندما جاء الإسلام وغيّر المشهد العربي في الجزيرة العربيّة. وقد استغلّ الإسلام السياسي هذه الاعتقادات ليمرّر مشروعه ألإقصائي. وعلى الفلاسفة في رأيي أن لا يقفوا على عتبة هذه الملاحظة ليردّدوا أنّ الهويّة قاتلة. عليهم الإجابة عن هذه التّساؤلات والإشكاليّات المختلفة، وإعادة تعريف مصطلح الهويّة في علاقته بالغيريّة. نعم علينا رصد انتماءات هويتنا التّعددية والاختلافيّة. ذلك لا يمنع الفرد من إثبات انتسابه الواقعي والرّمزي إلى مجموعة قيم معيّنة وإلى وحدة ترابيّة محددة وإلى ماض واضح المعالم هو في الحقيقة تاريخ قومي وإطار اجتماعي وثقافي وسياسي. فالإسلام عرف أثناء فتوحاته الأولى كيف يعيد تنظيم الجماعة الإسلاميّة بفسح المجال لاستمرار ما هو جوهري في عمقه الثّقافي، ولم يمحُ آثار الثّقافات الأخرى وأنماط حياتها. أمّا الإسلام السياسي الآن فقد أنهى هذه الممارسة الإسلاميّة الأولى ليحوّلها إلى ممارسة سياسيّة بحتة فأصبحت الهويّة عندهم كما هي عند السياسيين نوعا من الخليط يسمح لهم بتفادي إشكاليّات لا يملكون مفتاحها، كما تسمح لإيديولوجيتهم باختزال الواقع المتشعّب في أحداث منسّقة ومنظّمة، والتّصرّف في رهانات السّلطة بفعاليّة.
في تونس بعد الثورة وعند وصول الإسلاميين إلى السلطة أصبحنا نعيش صراع المرجعيات بعدما عشنا قبل ذلك تناغما بينها بفضل علماء الإصلاح الذين حاولوا منذ أواسط القرن التاسع عشر إعطاء تونس مرجعيات عديدة ترتكز عليها بتناغم لبناء دولة عصرية حديثة. وفي الواقع يقوم هذا التناغم بين المرجعيات نظريا على توازن خلاق بين المنطق الديني والمنطق العلمي. فليس ثمّة حرج فى الجمع بين البيان الدينى للمعنى وبين التركيب المنطقى والبرهانى مع فصل المقالين. ويكون فصل المقال أساسيا فى منهجية تناغم المرجعيات، وقد حاول علماء جامعة الزيتونة عصرذاك ومعهم علماء مدرسة الصادقية اعتماد فصل المقال والتمييز كما يقول الفارابى بين جملة الأقوال والممارسات حتى تصبح لكل قول مكانته الخاصة الدقيقة من ناحية، ومن ناحية أخرى ليعمل المفكّر والعالم بكل ما أوتى من علم وفكر وذكاء على ألا تختلط السبل وألا نُعيد للحضارة العربية والإسلامية ما سيجعلها تعود إلى السبات والسكون والاندثار.
كذلك ظهر تناغم المرجعيات على مستوى التعامل مع التاريخ في حركية بناء الدولة العصرية بعد الاستقلال عندما استلهم النظام البورقيبي آنذاك قوانينه وممارساته من قراءات متجددة للدين الإسلامي لا محالة ولكن وأيضا من تاريخ تونس المتنوع ومن الحضارات الكثيرة التي شاهدتها في ماضيها لتتكون فكرة “القومية التونسية” والتي تريد أن تكون تركيبا متوازنا لجميع تلك الحضارات دون المساس بالهوية العربية الإسلامية. ولعل المهمة الصعبة كانت ومازالت تكمن في صياغة فكرة الوطن وإعادة صياغتها على ضوء مستجدات الحاضر. مع هيمنة الإسلام السياسي تناغم المرجعيات المؤسسة للهويّة التونسيّة أصبحت في خطر بل هناك محاولة “للإبادة الثقافيّة”” وحصار الشعب التونسي بإيديولوجية عنيفة وإقصائية ورهيبة قد استعملها التنظيم الإسلام السياسي في مصر وليبيا ويحاول استعمالها على مستوى العالم الإسلامي كلّه. والنتيجة كثيرا ما تكون كارثية. إنهيار للشخصيّة وانهيار للشعب وانهيار للوطن وهي مفاهيم لا يعترف بها الإسلام السياسي.