مداخلة الأستاذ منصور مهني في اللقاء الافتراضي الذي انتظم بشراكة بين مؤسسة تونيفزيون، من تونس، والمنتدى المتوسطي للشباب، من المغرب، وعنوانه ” لحظة تفكير حول تعزيز الشراكة المغربية التونسية في ظل تحدي التنمية في افريقيا” وذلك يوم الثلاثاء 30 مارس 2021
غبطة الجوار وبعد… في الدبلوماسية الثقافية
منصور مهني
لا يفوتني في بداية هذه المداخلة أن أثمن مبادرة تنظيم هذا الملتقى وأن أشكر الذين اجتهدوا في إنجازه وكذلك المشاركين في إثرائه. ويهمني أيضا أن أشدد على محبتي للمغرب الشقيق ولأصدقائي فيه وكذلك على قناعتي الراسخة بصواب مفهومي “المغاربية” و”المتوسطية” وتحمسي للإسهام في تكريسهما بكل ما أوتيت من جهد، خاصة عبر العمل العلمي والثقافي والجمعياتي.
أما عنوان هذه المداخلة، فقد جاء بوجهين لعملة واحدة هما “غبطة الجوار” و”الدبلوماسية الثقافية”.
1 – غبطة الجوار:
“غبطة الجوار” فكرة، فكتاب، فبرنامج مستقبلي.
الفكرة بادر بها سعادة سفير المملكة المغربية، المثقف والمفكر حسن طارق، وتمثلت في دعوة مثقفين وإعلاميين وجامعيين من البلدين الشقيقين للتعبير عن المشاعر والأفكار والذكريات التي رسخت في بال كل منهم تجاه البلد الآخر.
وما لاحظناه عند الإنجاز هو تحمّس المثقفين بمختلف أصنافهم للفكرة واستجابتهم السريعة وغير المشروطة، خاصة أن الخط التحريري للكتاب ترك للمشاركين حرية اختيار الموضوع ووجهة النظر والجنس الأدبي المعتمد. وصدر الكتاب بسرعة ونال استحسان جمع كبير ممن يهتمون بالموضوع.
ولما كان صاحب الفكرة والإنجاز لم يقم بذلك لرغبة خاصة في نفسه بل انطلاقا من رؤيا أوسع تتنزل صلب مفهوم “الدبلوماسية الثقافية”، فإنه لم يتوقف عند إصدار الكتاب، بل شرع مباشرة بعده في إرساء استراتيجيا تعاون ثقافي وإعلامي بين الوطنين وبدأ يرسم خطوط المراحل الأولى التي قد تتجسد قريبا في مسارات ثلاثة:
+ ملحق ثقافي مشترك في جريدتين وافقتا على ذلك بكل سرور وبحماس حار، واحدة تونسية هي جريدة “المغرب” والأخرى مغربية وهي جريدة “العلم”؛
+ الإعداد لأنتولوجيا مشتركة للأدبين المغربي والتونسي؛
+ تنظيم لقاء دوري تونسي مغربي ينتظم بالتداول بين البلدين ويكون جامعا لكل مجالات الثقافة التي يمكن تشريكها في كل دورة، مع عقد ندوة في كل دورة تكون في صلة بالرؤيا التي يحملها المشروع المشترك بين المغرب وتونس، في انتظار ما قد يتولد عنه على نطاق أوسع إن مغاربيا أو متوسطيا أو إفريقيا أو دوليا.
أما العنوان الذي اختاره السفير للكتاب، “غبطة الجوار”، فهو بذاته فلسفة ومشروع. لأ أخفي أنني كثيرا ما أكتبه “غبطة الحوار” ربما للجوار اللصيق بين الجيم والحاء على لوحة المفاتيح في الحاسوب، وفي المناجد أيضا، فتستحضر العبارة في كل مرة معنيي الجوار والحوار كأن كليهما سبب ونتيجة للآخر. وجوار الحرفين هذا ينزّل إدراكنا للموضوع في تعريف الدبلوماسية الثقافية بأنها “الحوار المؤسس للجوار”، إذ بذلك يخرج معنى الجوار من مفهوم القرب المكاني إلى قرب آخر صلبه الثقافة بتفريعاتها المتنوعة والشاملة لكل ما يحتاجه مجتمع الجوار أو مجتمعات الجوار من التقارب العاطفي والفكري والمفهومي وغيره مما يكوّن نبل إنسانية الإنسان.
2 – في الدبلوماسية الثقافية:
أما عن الدبلوماسية الثقافية، فلننظر إذن في تعريفها انطلاقا من هذه المقولة للدكتور نجم الدين كرم الله، الأكاديمي والباحث السوداني، والناشط الاجتماعي والثقافي: “تُصنف الدبلوماسية الثقافية على أنها عنصراً من عناصر الدبلوماسية العامة، وهي شكل من أشكال تبادل المعلومات وترويج الفنون والجوانب الأخرى للثقافة بين الأمم[1]“.
وكتب السفير التونسي السابق محمد جنيفان: “الدبلوماسية الثقافية مصطلح شاع في السنوات الأخيرة، ملتحقا بمصطلح الدبلوماسية الاقتصادية الذي سبقه في كثرة الاستعمال ليلفت النظر إلى أهمية الثقافة في المجال الدولي[2]“.
ما نلاحظه من هاتين المقولتين هو أن دور الثقافة في الدبلوماسية بقي محتشما رغم التفطن إلى أهميته وأنه بقي مكمّلا وربما ثانويا في مجال الدبلوماسية. أما ما لمسته شخصيا من تعاملي مع سعادة السفير حسن طارق فهو الوعي بضرورة الارتقاء بالمفهوم إلى درجة الركيزة الأساسية للعمل الدبلوماسي، وهو ما أسعدني وشجعني على تعميق التفكير معه في هذا المجال بعلاقة بموضوعنا، خاصة لقناعتي بتلك النظرة منذ سنين طويلة.
فجعل الثقافة ركيزة أساسية للعمل الدبلوماسي يجعل من هذا الأخير يتسع لبقية مجالات النشاط الدبلوماسي ويكسبه نجاعة ومصدقية يرتاح لهما الطرف المقابل لأنه يشعر بنفسه في مناخ مريح من الجوار ومن الشراكة الأفقية، فيطمئن قلبه لذلك ويقتنع عقله. بالإمكان أن نقول إذن إن الدبلوماسية العامة ثقافة قبل كل شيء أو لا تكون حيث لا يمكن أن تذيّل الثقافة لقطاعات أخرى، اقتصادية أو سياسية أو غيرها، بمقاصد الانتفاع أو توجيه الرأي ولو يتم ذلك على حساب الغير أو بالتغاضي عن الحق، وهو ما نستشعره من المقابلة المستعملة بين تسميتي “القوة الناعمة” و”القوة الصلبة”. فالمفروض أن تنبني العقلية الجديدة على رفض معنى القوة من العمل الدبلوماسي كثقافة وجعله ألفة حوارية تؤسّس لجوار وجداني ومعقلن يكون مولّدا للشعور بالغبطة للوجود مع الآخر والعمل معه في تضامن وتكامل يرتقيان بالعيش المشترك لحاجة الجميع إلى السعادة والرفاهة والطمأنينة التضامنية.
والمهم أيضا في تجربة غبطة الجوار، هو أنها انطلقت بين بلدين لهما من الروابط الثقافية العامة ما هو متأصل ومتجذر منذ قرون متعددة فأصبح الجوار بينهما عاما في المستوى الشعبي وهو ما من شأنه أن يسهّل الأمور لدى المسؤول الدبلوماسي أو السياسي. والتاريخ شاهد على أن تونس والمغرب، كلما جد الجد، وجدناهما في التقاء حول كثير من القيم ومن القناعات ومن المسارات التي ضمنت لهما تضامنا تأسّس ثقافيا واجتماعيا وبقي ينتظر الفعل السياسي العام ليطور آداءه لما هو أفضل.
وهذا التطور لا يمكن أن يأتي بفعل السياسي فحسب، رغم أهميته، فلا بد من انصهار عمل المثقف خاصة والمواطن عامة في ذات التمشي حتى لا تضيع فرص تطوير الجوار بين الشعوب عامة وبين شعبينا على وجه الخصوص. ولا بد للشباب، وهو عماد المستقبل، أن يكون الفاعل الأكثر التزاما والأنجع عطاء ليحقق ديمومة الجوار وغبطته.
ندرك إذن قيمة التجربتين الحديثتين لهذه الفلسفة الجديدة التي يقترن فيها الثقافي بالدبلوماسي كصفحتين لورقة واحدة في فاتحة كتاب الجوار وسعادته، هما تجربة غبطة الجوار التي بادر بها سعادة سفير المملكة المغربية بتونس وامتدادها في مجال الدبلوماسية الثقافية، وتجربة هذا الملتقى الذي أراده منظموه وهم جمع من الشباب المغربي والتونسي “لحظة تفكير حول تعزيز الشراكة المغربية التونسية”. والتجربتان تنصهران في نفس الرؤيا وتلتقيان حول نفس الأهداف السامية التي تؤسّس لمستقبل أفضل للمصير المشترك.
صحيح “أن أهمية الثقافة آخذة في الارتفاع في مجال الشؤون الخارجية، وان دورها في هذا المجال لا يزال أحد أكثر جوانب السياسة التي لم تخضع للدراسة[3]“، لكن مثل هاتين التجربتين يفتح الشاهية لتذوق آخر، طيب ولذيذ، لرحيق المواطنة كغذاء منعش للتعايش بين الأفراد وبين الشعوب على ثوابت أخلاقية وإنسانية يتضمنها الوعي الثقافي بصفته الروح الحية لكل الأشكال الدبلوماسية.
مع الشكر على الإصغاء.
[1] د. نجم الدين كرم الله، “دور الدبلوماسية الثقافية في تطوير العلاقات بين الشعوب”، موقع الجزيرة نات (https://www.aljazeera.net)، 5/7/2020.
[2] محمد جنيفان،”في الدبلوماسية الثقافية”، موقع الدبلوماسي التونسي (http://www.lediplomate.tn)، 3/11/2018.
[3] د. نجم الدين كرم الله، المرجع السابق.