التقيت رضوان علوي في مرة وحيدة إلى حد الآن، يوم 22/02/2021، وكانت بمكتبة عليسة في مبنى البالماريوم حيث كنت أتحادث مع الناشر ورئيس اتحاد الناشرين التونسيين، صاحب دار عليسة للنشر، الصديق رياض بن عبدالرزاق في بعض التفاصيل الختامية للعقدين الضابطين لتراتيب نشر الدار لكتابين لي، في مطلع سنة 2021. دخل المكتبة شاب خلته من الزبائن وحيّانا بكثير من الحياء وبقي يتصفح بعض الكتب المعروضة، فناداه السيد رياض باسمه وقدمه لي وأعلمني أن الشاب رضوان نشر ثلاث روايات وأن له أكثر من ذلك بمرتين على الأقل من النصوص غير المنشورة، وأضاف: “سأهديك نسخة من الرواية التي نشرتها له وستدرك قيمة هذا الكاتب الشاب. أما أنا فسأشجعه ما استطعت إلى ذلك سبيلا”.
أعجبني حماس الرجل للإبداع الشبابي وأعجبني تواضع الشاب وما بدا لي عليه من أخلاق اللطف والاحترام. كتب لي إهداء على الصفحة الأولى وأعطاني الكتاب فقرأت عنوانه “غرفة بلا أرقام” وفتحت الصفحة الأولى حيث قرأت ما كتب لي: “إلى السيد منصور مهني، إلى مزيد من التألق وأن تبقى ذخرا للثقافة في تونس، رضوان علوي (التاريخ والإمضاء)”.
كنت أود أن أنغمس مباشرة في قراءة الرواية لكن أشغالا متأكدة في طور الإنجاز جعلتني أتنقل بالرواية حيث ما أذهب لأغتنم بعض أوقات الانتظار عند قضاء بعض الشؤون وقد تعددت، في قراءة صفحات من الكتاب؛ وفي الأسبوع الأول من شهر أفريل، عندما كنت في مستوى الصفحة 40 من القراءة، عقدت العزم على أن أتفرغ لاستكمالها في يومين وأن أحاول تحرير نص عنها لما أعجبني فيها.
إن أول ما لفت انتباهي هو أسلوب الكاتب النابع من امتلاك قوي للغة العربية بمختلف إشاراتها ودلالاتها المباشرة وغير المباشرة، في موضوع الهجرة غير الشرعية الذي يبدو لك في الوهنة الأولى كأنه في سلسلة الاجترار لوضع مأساوي يموت فيه الشباب في عبور المتوسط بحثا عن الحياة.
لنقل في البداية أن الموضوع في غاية الأهمية مهما تعددت، إلى شبه التكرار، طرق تناوله وأنواع الخطاب الحاملة له. هو موضوع في صلب إعادة أنسنة هذا العالم الذي نخرت أسسه وقيمه تلاعبات وحسابات وأنانية وحب للجاه وللسلطان على حساب الأخلاق المؤسسة لنبل إنسانية الإنسان، وإلا لماذا تميّز عن باقي الخلق حتى صرنا نرى لدى بعض الحيوانات من الأخلاق الفطرية ما يرفعها (ليتني أكتب “يرفعهم”) فوق بعض بني البشر. والشائك في الموضوع هوطريقة تناوله أدبيا أو فنيا بالتقنيات والمهارة التي لا تفقد العمل المنجز صفته وتميزه الإبداعيين. فالواقعية مطب خطير للكاتب من حيث مزالق الأيديولوجيا وما تحمل من مخاطر التلاعب السياسي، ولعل نجاح رموز الواقعية الأدبية عند بالزاك وفلوبير وموباسان ونجيب محفوظ وحتى زولا لم يحصل إلا بالسير الصعب والخطير فوق الحبل الرابط بين تسييس الأدب من جهة عبر مقاربة معينة للواقعية واستلهام الواقع المعيش من جهة أخرى لجعله عينا تنبع إبداعا ومنجما ينتج جمالا.
هذا ما لمسته، بما أوتيت من ملكة متواضعة لإدراك الموضوع وعرضه في نص إبداعي.
وجدت عند رضوان علوي لغة يمتزج فيها الإيحاء الصوتي والتفاعل بين الكلمات وأسلوبا تخاله ينبع من غرام فني تمتزج فيه الموسيقى بالرسم التشكيلي والسينما، حاضرا وقديما، وهو أمر لا يتأتى لغير مثقف واسع الاطلاع ومرهف الحس وحاد الذكاء.
أما الحبكة القصصية فقد جاءت بصورة تجعلك تقرؤها كأنك تحياها أو عشتها من قبل فتتذكرها، وتفرض على نفسك بعض التطابق النسبي مع شخصيات الرواية مهما أردت أن تختلف عنها كما تفرض عليك عديد الاختلافات مهما وجدت نفسك فيها أقرب إلى المطابقة. تنشأ في داخلك إذن تساؤلات ومحادثات بينك وبينها، أو لعلها بينك وبين الآخر فيك، قد تؤدي بك إل تنسيب الواقع والحقائق والقيم، ولربما معنى الحياة والموت أيضا.
لا أريد أن أطنب في التعليق على محتوى القصة لأترك للقارئ متعة الاكتشاف وعذابه، غير أنني أود أن أشير إلى موضوع في صلة بهذه الرواية لعله يدعو إلى التعميق، ربما من أحد طلبة الماجستير في الأدب التونسي العربي أو الناطق بالفرنسية، وإن كان في تهميش هذا الأخير كثير من التجني عليه وعلى أصحابه وعلى ما يقدمه للأدب التونسي وللثقافة التونسية عامة في صلة بالآخر الذي لا مفر من التفاعل معه بما يجعلنا نتموقع في السعي نحو عالم مؤنسن ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلا.
إن الرحلة التي جاءت في كتاب “غرفة بلا أرقام” تحيلنا، بتقارب وتباعد ممتزجين، إلى نصين آخرين لتونسيين اعتبر أولهما نصا مؤسّسا لفن الرواية في تونس وهو كتاب “رحلة في حانات البحر المتوسط” لعلي الدوعاجي، وثانيهما كتاب “يوم في بالرمو” للكاتب التونسي في إيطاليا، مجيد الحوسي الذي أترحم عليه في الذكرى الثالثة عشرة لوفاته يوم 10/05/2021.
كتاب علي الدوعاجي نشر لأول مرة في كتاب سنة 1961 (بعد نشره مرتين في مجلة “العالم العربي” ثم مجلة “مباحث”) وفي سنة 1961 رحل مجيد الحوسي إلى باليرمو حيث بقيت في مخيلته ذكرى اليوم الأول الذي نالني شرف مواكبة سرده كتابيا في كتاب تضمن نصا أرسله لي المؤلف عند الانتهاء من تحريره وكان في شكل إهداء لشخصي المتواضع تم إدراجه في النهاية بإمضاء وتاريخ مستنبطين خياليا قد يجدر التوقف عندهما، لكن في غير هذا الموقع (ربما أعود في فرصة أخرى، إن بقي في العمر ما يعاش، لعرض العناصر المدققة لهذه العملية).
كتاب الدوعاجي يسرد مراحل جولة سياحية في شمال المتوسط لم تخل من الروح الخفيفة ومن الأسلوب الهزلي ومن الدعابة المستفزة التي تدفع إلى المقارنة بين الطباع وبين المظاهر الحضارية العامة في البلدان المختلفة. قد يكون هذا الكتاب مؤسّسا للأدب التونسي المتوسطي ويحق لنا بل يجب علينا إبراز ما قدم باكرا لفكر المتوسطية ولمفهومها الناشئ والمتعثر.
أما كتاب مجيد الحوسي “يوم في بالرمو” (2004) فهو يحكي قصة طالب رحل لطلب العلم في إيطاليا سنة 1961-1962 عندما توقفت المنح الدراسية للتونسيين في فرنسا جراء الخلاف حول بنزرت والمعركة التي نشبت عنه. وهذا الكتاب جاء كمواصلة لدى مجيد الحوسي في تعقب مراحل ذاكرة العبور المتوسطي التي تجسمت بطريقة شعرية في كتاب “بستان المطاردات” ( Le Verger des poursuites, 1991) ثم خاصة في كتاب “أصوات في العبور” ( Des voix dans la traversée, 1999). أعتقد شخصيا أن كتابات مجيد الحوسي وتجربته الحياتية والإبداعية والجامعية تشكل مادة هامة لتدارس الشعور المتوسطي وفكر المتوسطية.
ثم يأتي كتاب رضوان علوي بطرح يحمل لا الفارق الزمني فحسب بل أيضا حجم المفارقات الاجتماعية والاقتصادية في هيكلة تكاد لا تتغير من حيث هي عبور للمتوسط.
ذهب الدوعاجي وعاد منتشي الفكر والروح بما رأى واكتشف واستنتج فأسس لوعاء أدبي هو الرواية التونسية ولفكر سبّاق يطرح قضية المتوسطية من حيث هي قدر محتوم بمرور الزمن، مهما كانت الأشكال التي سيتخذها.
ورحل مجيد الحوسي لطلب العلم فوجده ووجد معه الحب الذي لم ينسه وطنه ولا ثقافته فأصبح يبحث عن سبل التقريب بين البلدين على أساس أنهما وطنين له، في معاشرة بناءة فاتحة على أفق رحب من التثاقف والتآنس.
أما رضوان علوي، فرحّل بطله بحلم البحث عن الحب المفقود في وهم الجنة التي تنتظره شمال المتوسط، رحّله ليبحث عن الحياة حيث كان يتوقع أنه سيجدها عندما استحالت عليه في وطنه. لكنه لم يجد سوى خيبة الأمل والسقوط في حظيظ تحول إلى قبر للحب والمحبين معا.
إن رواية “غرفة بلا أرقام”، التي لم أتعمق في تحليلها، تشكل في رأيي علامة نيرة في مسيرة مبدع شاب سيكون له شأن في دنيا الأدب؛ يحق لنا إذن أن نتوقف عندها من أبواب تحليل الخطاب الأدبي، وإنشائية النص السردي، والأدب المقارن والعلاقة بين الأدب والمجتمع، إلخ.
ويحق فيها القول في النهاية: “للحديث بقية”، وهي بقية ليسيت بالضرورة من طرف صاحب هذا المقال.