1-
المصادفة التي هي الاسم الآخر أو المُستعار للعناية الإلهيَّة ، هي لِقَاءٌ روحيٌّ محمول على التلذذ والذوق مِنْ غَيْرِ مَوْعِدٍ وَلاَ قَصْدٍ ، ولا سبب مُحدَّد ، رتَّبتْه السماء ، ودبَّره القدر ، ورعته المشيئة ، وسقته النفس النقية العالية التائقة إلى الحُب .
المصادفة في الحُب ، هي الآن والآتي في عليائه ، وهي مطر السماء الذي تنتظره أو لا تنتظره ، هو الذي يسقي أرضك العطشى ، الباحثة عن طوق نجاةٍ ؛ كي لا تتيبَّس وتجف عظامها وتهرم على عُودها ، وتموت كأية شجرةٍ وحيدةٍ .
لكنَّ المصادفة – وهي ليست عمياء بالمناسبة بل حادة البصر والبصيرة – لا تأتي إلى غبيٍّ ، فهي تحتاج إلى من كان صاحب قلبٍ جامحٍ صافٍ ، وذهنٍ متقد ، ونفسٍ عارفة ، تقبل الهدية الإلهية ولا ترفسُها بقدميها في نوبةٍ من نوبات العتَه والاستغناء الذي لا طائل من ورائه ولا جدوى .
والمُصادفة – عندي – هي حُلم متكرِّر وتنبؤ يصدقُ، وهي نوعٌ من الكرامات والخوارق التي لا تتكرَّر ، ولا تأتي اعتباطًا ؛ لأن الحواس لا تخدع ، ولا تعرف الكذب ؛ ( ألا ربما أعطتك صادقة َ المنى
مصادفة ُ الأحلامِ من حيثُ تكذبُ
– مهيار الديلمي ، توفي 428 هـجرية / 1037 ميلادية ) ، لذا هي تفرِّق بين المُصادفة والمُحاوَلة الكذُوب للتقرُّب والرغبة العارضة الطارئة ، التي لا عشقَ فيها ، فالمُصادفة هي هدية ل ” الحُب الحقيقي ” المملوء صفاءً وهناءً وحياةً وأملا ، ثم يتبع هذه الحال الحاصلة مشاهدات ومكاشفات هي غاية مطالب المحب ونهاية ثمرة القرب والعشق . والمصادفة هي تاجٌ لروحيْن انتظرا طويلا ، وهي نهاية الرحلة ، وخاتمة المطاف الحياتي لاثنين حلَّا في جسدٍ واحدٍ من فرط ما بينهما من عشقٍ ؛ لأن الشمس تكسفُ حزنًا على فِراقٍ أو كذبٍ في العشق ، وكذا يخسف القمر ألمًا لقلبٍ مهجُورٍ أو مكسُورٍ يحتاج وصلَ وجبرَ من عشقه .
وقلبي لا ينكرُ المُصادفة ولا الكرامة ، ولا يمكن إلغاؤها أو الاستغناء عنها والعيش بدونها ، ففيها لذَّة ومفاجأة : ” رمية نرد لن تلغي المُصادفة أبدًا – ستيفان مالارميه ١٨ من مارس ١٨٤٢ – ٩ من سبتمبر ١٨٩٨ميلادية ” ، بل أحيانًا أراني ابنهما ، ففي المُصادفة سبب صغير يؤدي إلى نتيجة عظيمة ، وما شُفتُ وقرأتُ في تاريخ المتصوفة وأهل العِشق يجعلني أكثر إيمانًا بذلك ، مع تأكيدي أن المُصادفة – وهي قوية كل القوة – لا تذهبُ إلى سائر الخلق ، بل هي ما تختار من تراه لائقًا بها وفي حاجة إليها ، كما أنها هي الأخرى عليها أن تقتنع وتقرَّ بحال المُحتاج والمنتظر لها ، وفي النهاية تصل إلى اليقين و الكمال المطلق ، بعد طول سؤالٍ وبحثٍ للوصول ثم الوصْل .
2-
كان فولتير (21 من نوفمبر 1694 – 30 من مايو 1778ميلادية ) يُسمِّي المصادفة أو الحظ ” صاحبة الجلالة ” فهي ” الالتقاء المتزامن لواقعتين لا يوجد بينهما رابط، وإن كان لكل منهما سببه ” .
وإذا كان كان كلوسفتز(Clausewitz)، فيلسوف الاستراتيجيا، يقول إنه : ” لا يوجد نشاط إنساني يرتبط أكثر وبشكلٍ أساسيٍّ وعلى نحو كامل وكوني بالمصادفة كالحرب ” ، فأنا سأستبدل الحرب بالحب ، لأن دنيا الحب قامت على المصادفات ، كما أن الحياة والتجارب علَّمتنا أن الحب له الغلبة على الحرب .
وإذا اعتبرت المصادفة هي خلية واحدة فإن الإنسان سيتحرك داخلها بحرية واسعة لا قيد فيها ولا حد ، حتى يصل إلى تحقيق حلم الحب الذي يراه في مناماته ، وينتظره بشغفٍ نادر لا مثيل له في سمواته العليا .
والأهم في الحُب أن لا نتوقف عن الحلم والسَّعي والسَّفر والسُّؤال والذهاب نحو ما نراه مستحيلا ، أو صعب المنال والإمساك به .
وحدها المصادفة – التي لم يكن من الممكن توقعها أو تكرارها – تذهب إلى أهل الأرواح الشفيفة دون تقصُّدٍ أو تعمُّدٍ أو حتى انتظارٍ ، و تلقي نفسها في حضن أهل الهوى ، وهي لا تسير إلا على قدمين ثابتتين عارفتين ، فأجمل الحُب وأصدقه ما كان عفْويًّا في وقوعه ، وطبيعيًّا في حدوثه وحدوسه .
والمصادفة قد تغيِّر حياة الإنسان كاملة ، وتمنحه ما لم يكن يطمح إليه ، أو يحلم به ، أو تعطيه أكثر من توقعه.
أنا لا أقول إن المصادفة – التي تقبلها الفطرة السليمة – تخلق الحب ، ولكنها تمنح الفرصة ثانيةً لروحين كانتا متحدتين في زمن ما سابق ، وقد آن الأوان أن تلتقيا مرة أخرى لتتحدا ، وتكملا دورة العشق ، فالروح هنا ترى ما لا يراه الآخرون ، والحدْس راءٍ ، وهو أعلى من عينيْ الصقر ، والعاشق لا يمنح ذاته إلا إذا شاف وعاين ورأى ونظر بعمقٍ إلى رُوح من صادف وعشِقَ ، وبما لديه من حسٍّ شفيفٍ ، وحدسٍ مدهشٍ ، ومعرفةٍ بالباطن ، ومن ثم يرى من يحب ولو كان على بعد عشر سمواتٍ ، إذ يتحد بمن يهوى ويحِلُّ فيه .
لا وصول بين العاشق والمعشوق وكفى ، فدائمًا هناك وصولٌ جديدٌ ما دام هناك وصْلٌ لا ينقطع ولا تتمزَّق أو تبلى أوصاله ، فكلما وصل ابتدأ الرحلة مما قبل الحركة.
مع الأخذ في الاعتبار أن التحفُّظ والحذر لا يصلحان للحب ، إذ هُما يؤخرانه ويخذلانه ويقصُّان جناحيْ طائره .
3-
في ليل المصادفات تسكن النفس منازلها بنور البصيرة ،( وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ) ، لكنَّها لا تهدأ ، بل تبدأ عملها في الحركة الدائبة قلبًا ورُوحًا وحواس ، والأخيرة صيغة منتهى الجموع ممنوعة من الصرف ، لكن لا يصرفها إلا المُحبُّون في ليلهم القصير مهما امتد وطالت أوقاته ، إذ هي تمرُّ كلمح البصر يمينًا أو يسارًا .
ففي الليل – بعد وقوع المصادفة وحدوث العشق وحدوس الروح – تتوهج الحواس ، وتكتمل وتشحذ حدودها ، وتتناغم وتتكامل في دوائر متشابكة متعانقة ، ومثلثات متداخلة لا تعرف الزوايا الحادَّة المدبَّبة ، بل تصير أكثر مرونةً وليونةً وطواعيةً ، بحيث تكون الهيمنة للكنوز التي يحملها البستان في أشجاره وعرائشه ، وساعتها تكون هذه الكنوز – التي تحملها شجرة المحبوب – ليس كمثلها شئ ، كأن الجسد قد زُيِّن بمصابيح ، أو زُيِّن بزينة الكواكب ( جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ )؛ لأنه يتخلَّص من شغل الرُّوح و من أعباء النهار ، وكذا الدنيا تتخلَّص من حرارتها بالانخفاض ، بينما تعلو حرارة النفس والروح والجسد ، وتلك الحرارة هي ما يُعوَّل عليها في العشق ، ف ” كل شوقٍ يسكنُ باللقاء لا يُعوَّل عليه ” كما قال محي الدين بن عربي ، ويصير البستان – الجسد أرضًا ﴿ فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾.