في توبولوجيا الكتابة حول الفنون (Les Écrits d’Artistes)
أطروحات متقاطعة ومسائل معيارية ومفهومية عالقة
(من جوليوس فون شلوسار، نحو برنار ساف وجينات دونساي مرورا بهرتور برليوز ومونتفاردي)
ــــــــــــــــــــــــ
1- جوليوس فون شلوسار وتأسيس مصطلح Kunstliteratur Die
يعيدنا الألماني شلوسار (Julius von Schlosser) الى مراجعة الكتابات حول الفنون، من خلال مؤلفه الشهير المؤسس للأدبيات الفنية او ما يسمى (Die Kunstliteratur) في أصله الألماني المنشور في 1924، أو من خلال الترجمة الفرنسية التي قام بها جاك شافي (Jacques Chavy) وصدرت سنة 1996 تحت عنوان (La literature artistique) مرفقا بعنونة فرعية مفصلة للمضمون ” دليل مصادر تاريخ الفن الحديث “. وقد قام جاك شافي بالترجمة انطلاقا بالنشرة الألمانية للكتاب (1924)، تساوقا مع نص النشرة الايطالية الثالثة التي أعاد مراجعتها وطبعها أوتو كورز (Otto Kurz)سنة 1967. لأنها -حسب اندري شاستال (André Chastel) في تصديره للكتاب- تعتبر الكتابات حول الفن، فكرة مألوفة، قد لا تتضمّن للوهلة الأولى ما تحيل عليه عبارة (Kunstliteratur). تلوين شعري وقصصي، فلسفي، نقدي، يُقدّر الخاصيّة العقلانية والأدبية بصرف النظر عما يحتويه من عناصر توثيقية ومعلوات مُفصّلة. يُبوّب ويُحصي شلوسار أجناس الكتابة حول الفن لكنه لا يضع الكتابات الشخصية أو البيوغرافية محلّ صدارة. و يدافع عن ضرورة العودة إلى كتابات العصر الكلاسيكي التي تضمنت كما هائلا من المرجعيات لم تستعمل بشكل جيد، وظلت العودة اليها متقطعة أو ظرفية. لا يعوّل شلوسار على نصوص هوميروس (Homère) وهيزيودوس (Hésiode) أو فيرجيل (Virgile) لأنها تظهر في شكل نمطي، ولا تنفتح على أدب فني متميّز. فعندما يصف هوميروس درع أخيل (Achille) يُحوّل نصه الى وثيقة، في حين أنه لا يعدو أن يكون ما اصطلح عليه بالعبارة الاغريقية القديمة (,ἐκφράζειν, ekphrasis) وتعني الوصف الدقيق والمُفصّل.
إنّ الكتابة الحقيقية حول الفن، في نظر شلوسار هي التي تنشأ بعديا، تولد بعد مرور الفنانين وبعد تواتر عملية الآثار الفنية. ذلك ما يُسميه “الوصف المضموم” (ekphrasis et encomiun )، ويتميز بعدم الاسهاب في المواضيع الجزئية أو الظرفية، ويكون همّه الأساسي ضمّ كل النشاط المشتت ووضعه تحت مسمى الفن وفق نمطين من المناهج: المنهج الدياكروني (diachronique) والمنهج الترحلي (périégétique).
لقد كان عسيرا على الباحث في نظريات الكتابة حول الفنون، قبل منجز شلوسار، أن يتبين التطور الذي عرفته الكتابات الفنية ضمن القرنين السابع عشر والثامن عشر. فولّد من الحقبة الكلاسيكية الجديدة تأريخا حقيقيا. أهمها حكاية صاحب الدير لانزي (l’abbé Lanzi) مع الرسم وهي الحكاية التي استفاد منها ستندال، وحكاية سيكوقرانا مع النحت.
لذلك فإنّ (Die Kunstlitteratur) لا تتوافق في نظر أندري شاستال مع ما يسمى “كتابات حوا الفنون قي فرنسا، فهي تشمل فقط المصادر التي تمت دراستها، في إصدار أساسي. ويُحصي شلوسار تيبولوجيا متنوعة منها، كتابات الفنانين، الكتب التقنية، البيبليوغرافيا، والأوتوبيوغرافيا، المراسلات، الأرشيفات الإدارية الخطابات الشفوية لأكاديميات الرسم والنحت. وتقسّم الى كتابات القلم الأول وكتابات القلم الثاني والثالث (première main, deuxième ou troisième main).
لقد كتب ريشارد كونت “يومياته الحميمة” (Journal intime)، وكذلك جون دلاكروا، وبول كلي وسلفادور دالي. وكتب ألبرشت ديرار المعاصر لدفنشي “سجلات عائلية”، وجيرار تيتيس كارمال “ملاحظات ورشة”. وجمع ماتيس كتاباته وأقواله وملاحظاته حوا فنه وابداعه وواصل أميل زولا ولامبر، ونيكولاس بوسان، وبيكاسو، وايجون ديلاكروا رحلتهم مع الكتابة حول الفن. نشرت رسائل ميشال أونج، وبيكون في ورشته، وقبل ذلك بكثير سنة 1928 نشر جيورجو دي شيريكو (Giorgio De Chirico) كتابا (Traité technique) يشرح فيه القصدية وفسر علاقتها بالممارسة التقنية المستعملة. وكتب التونسي على اللواتي مغامرة الفن الحديث في تونس.
2-برنار ساف، الكتابات حول الفن والفنانين قبل القرن العشرين:
غير أنّ منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ظهرت عدة كتابات نظرية، لفلاسفة، مؤرخين، علماء اجتماع، خصصوا اهتمامهم لللكتابة حول الفنون . وكانت الأشكال الجديدة للممارسات الفنية، دافعا لنشأة أشكال جديدة من النصوص والكتابات حول الفن، وأفرزت صراعات فكرية ومباحث عديدة.
تنقسم الكتابات الى كتابات نقدية وكتابات أكاديمية. غير أن الفنان الممارس للفن، يعتبر النقد الجامعي خطابا غير ممارس وغير عرف بمتطلبات العمل الفني. ولكن أغلب الكتب التي نشرت حول الفن لم ينشئها فنانون ممارسون. ذلك ما لاحظه ديلاكروا في يومياته (من 1822 الى 1863). غير أنّ برنار ساف (Bernard Sève) -في إحدى محاضراته التي سجلتها الاذاعة الثقافية الفرنسية- يذكر أن الكتابة حول الفنون تنزع الى الغايات التالية: تقعيد وهيكلة علاقة الأثر الفني بمتقبله، ربط ذلك بالأثر نفسه، استبدال الأثر في بعض أنماط الفن المفهومي.
تحتوي هذه الكتابات في نظر برنار ساف، على طاقة فلسفية محمّلة، ويجب ان نعطي لكل نمط من الكتابات حول الفنانين مقاما مخصوصا. ويُسمّي “كتابات فنان” كل نص كتبه فنان من جهة كونه فنان ويتجه نحو طرح أسئلة متعلقة بالفن. وهي نوعان: داخل جنس الكتابة (intragénérique) وأخرى متجاوزة لجنس الكتابة المعهودة (transgénérique). يُحمل النمط الأول على الفن ممارسا من طرف صاحبه مثل ذاكرة رسام أو مراسلات بين موسقيين. أما النمط الثاني فهو الذي يعبر فيه الفنان ويتحدث عن فن لا يمارسه.
تخضع معيارية تصنيف تيبولوجيا كتابات الفنانين حسب برنار ساف إلى أربعة أسئلة: أولا ينبغي النظر في المقام الفيلولوجي للنص، هل هو نصّ كتبه الفنان نفسه، أم قسم منه فقط ينتمي للفنان وهل أن نشر أثناء حياته (Anthume) أم بعد وفاته(Posthume) ؟
ثانيا، ضرورة تحديد الجنس الأدبي الخاص بالكتابات، كتابات لفنانين ذات صوت واحد (اليوميات، النصوص، المذكرات)، ذات صوتين، أو ذات ثلاثة أصوات وأكثر (المناقشات الأكاديمية، مثلا ).
ثالثا، زمن الكتابة، فالنص يمكن أن يكون سابقا، معاصرا، أو بعديا في علاقته بالآثار المتحدث عنها. فإذا كان النص سابقا (قبليا)، يسبق التجربة، فذلك يعني أن الفنان هو بصدد الاعلان عن مشاريع كما هو الحال في كتابة المراسلات. ويبقى من المنتظر أن تنجز أو لا تنجز. فيكون النص المكتوب قبليا هنا مختبرا ومخبرا للأثر-المشروع. وقد النص معاصرا متساوقا مع زمن الاشتغال على الأثر مثلما هو الحال ضمن مراسلات فلوبار (Flaubert) مع لويز كولي (Louise Colet) في الوقت الذي كان فيه فلوبار يكتب مدام بوفاري.وقد يكون النص بعديا مثلما هو الحال في المذكرات. أمّا السؤال الرابع فيتعلّق بمعيار النشر. فلا بد من معرفة هل أن نص الفنان لم يكن مقصودا لأي غاية في النشر، وهو ما لا يمكن معرفته دوما بشكل طبيعي.
ان هذه الأسئلة كفيلة بأن تحدّد كيف يمكن لنص الفنان أن يتحوّل من منزلة الوثيقة النافعة، الى الوثيقة التاريخية، الى البيوغرافيا، ثم الى النص النظري الذي يمكن للفيلسوف أن يُطوّره وينقله من مقام إلى آخر.
هرتور برليوز المؤلف هو الموسيقي الفرنسي ( 1803 – 1869) تميزت أعماله بقوة الحس الدراماتيكي وثراء النص الأوركسترالي. خلف العديد من الكتابات الموسيقية، الذي يعتبره برنار ساف وجها فريدا محملا بكل أنماط كتابات الفنانين (نصوص، مذكرات، مراسلات متروكة، نقد موسيقي، حكايات الخيال ). وهو صاحب أول أطروحة حول الآلات الموسيقية.
3-كتابات الفنانين، مشحونة باستعدادات فلسفية:
يظهر هذا الاستعداد الفلسفي، فيما يفصّله برنار ساف من تواجد للفلسفي ضمن الفهم أو ضمن الأطروحات. أما من ناحية المفهوم فيذكر “segunda pratica” من جهة كونه خاصّا لكلوديو مونتفردي (Monteverdi)، وقد اقترح المفهوم في تصدير الجزء الخامس من كتابه مادريغو (Madrigaux). وتعني عبارة ” segunda pratica” طريقة ثانية في عزف الموسيقى تعطي الأولوية لمعقولية النص، قبالة اللحن المصاحب. ويعتبره مونتفردي “مفهوما شعارا”، و ثمة في هذا المفهوم إعادة بناء لتاريخ الموسيقى من القدامى وصولا إليه تحديدا. لقد مات الصراع بين مونتفردي وأرتيسي (Artusi) وظلّ هذا المفهوم باقيا.
أمّا فيما يخص نمط الأطروحة، فيذكر برنار ساف، أطروحة الرسام(Odilon Redon) من خلال نصّه “إلى نفسي” (A moi même)، حيث كتب “يجب احترام الأسود، لا شيئ يُعوّضه”.
4- جينات دونساي (Genette d’enseil)، أنماط متعالقة وأسئلة فلسفية عالقة:
تُميّز جينات دنساي بين “ما يسبق النص” (paratexte) أو (péritexte) ويُمثل جميع العناصر التحريرية المصاحبة للنص المنشور (مقدمة ، ملاحظات تصدير، استهلال أو عنوان، إلخ). و (intra-opéraux) هي نصوص داخل المنطوق.
أما ماهو “خارج النص” (épitexte) ولكنه يهم النصّ رغم خروجه عنه، مثل مراسلة يتحدث فيها المؤلف عن نص أو عن محادثة. وهو النوع الذي تستثنيه جنات من توبولوجيا الكتابات الفنية.
يمكن مساءلة هذه الكتابات حسب جينات دونساي عبر أسئلة ثلاثة: السؤال التأويلي، وهو الذي يتعلق بمعرفة ان كان نص الفنان عنصرا مفصليا أساسيا في تأويلية الأثر الفني. هل يمكن للفنان أن يتأوّل عمله وفق ضرب من السلطة التأويلية بشكل مفهوم ومسموع؟
السؤال المتعلق بالعنونة أو بالتسمية، وهو ينتمي للكتاب ولا ينتمي للنص. وتشير إثر ذلك الى مسألة العناوين الوهمية.
أما السؤل الثالث، فهو أنطولوجي بالأساس، فهل أن نصوص الفنانين هي نصوص سابقة على النص، متساوقة مع النص، أم خارج النص؟ وهل تُغيّر هذه النصوص ضروب التواجد الأنطولوجي للأثر موضوع القول، بما أن هذه النصوص كتبها الفنان صاحب الأثر نفسه؟ هل يمكننا القول أن هذه الضروب الأنطولوجية متغيرة وفق تصريحات الفنان، خاصة فيما يتعلق بكتاباته الخارجة عن النص، مثل المراسلات؟
د. فوزية ضيف الله جامعة ، أكاديمية بجامعة تونس المنار وباحثة بنظريات الفن، جامعة قرطاج