“القناوة تتأنّث على ركح الحمامات، سيدة الايقاع ومقام التحرر
لقد كان جمهور المهرجان الدولي بالحمامات في دورته ال 59 على موعد استثنائي مساء الليلة الثالثة في سهرة مغاربية يوم 13 جويلية 2025، جمعت بين المغربية هند النعيرة والجزائرية جازية ساطور في عرض “القناوة النسائية جاءت هذه السهرة كتحية فنية للتراث المغاربي الروحي، وتحديدًا لفن القناوة، ولكن هذه المرة من صوت المرأة، في طقس موسيقي طالما كان حكرًا على الذكور، لتُثبت جازية أن الأنغام الروحية يمكن أن تتجدّد وتتعمّق حين تمرّ عبر تجربة أنثوية أصيلة.”.
هند النعيرة، قناوة بلا أسوار: من التقليد إلى التجريب“ :
افتتحت هند النعيرة السهرة، وأعادت تقديم إيقاعات القناوة بروح وطاقة انثوية عالية، منشدة إلى عنفوان الحياة، مشحونة بالحب والطاقة والرقص الجامع بين الطقوسي والروحي والفني. وقد قدم عناصر فرقتها لوحات راقصة فريدة، تشع بروح صحراوية افريقية، مخاطبة وهج الارض وعمق الانسان. وتُعدّ هند النعيرة من أبرز النساء في المغرب والعالم العربي اللواتي اقتحمن ميدانًا موسيقيًا ظل حكرًا على الرجال، لا سيما في ما يتعلق بالعزف على آلة القمبري، وهي آلة مركزية في طقوس القناوة. انطلقت مسيرتها الفنية من مدينة الصويرة، مهد هذا الفن الروحي، وراكمت منذ سنوات تجربة فنية قوية، مكّنتها من المشاركة في أهم المهرجانات القناوية المغاربية.
لقد اعتلت الفنانة المغربية هند النعيرة ركح الحمامات، لتمنح القناوة صوتًا جديدًا، صوتًا أنثويًا قوّيًا ومتمرّدًا، فيخرج هذا الفن العريق من عباءته الذكورية المعتادة نحو فضاءٍ أكثر انفتاحًا وشمولًا. لم تقدّم هند مجرد عرض غنائي أو وصلة موسيقية، بل جسّدت حضورًا فنيًا وثقافيًا ذا دلالة مزدوجة: من جهة، كصوت نسوي متفرّد يخترق المجال الذكوري بأسلوب احترافي وروحي، ومن جهة أخرى، كفنانة تحمل مشروعًا واضحًا لإعادة تقديم القناوة بروح معاصرة دون أن تفرّط في أصالتها. غنت “بانية”، “يا رسول الله نبي”، “مبرى مسكين”، “فلاني حريزة”، “برمة للا سلكان نبي”، “بابا ميمون”، “فونغورو”، بحراوي مول الماء”، “ساندية” و”عائشة”.
“تحرّر القناوة: من الطقس الذكوري إلى الصوت الحرّ“:
امتزج صوتها العميق بإيقاعات القمبري والشقاشق، وامتدّ أداؤها على ركح الحمامات في تدرّجٍ روحاني حرّك الذاكرة الروحية للحاضرين، واستفزّ مخزونهم العاطفي والجسدي. لم تكن الأغاني مجرّد كلمات وأنغام، بل كانت طقوسًا حية، تنبض بالرموز والتقاليد والصرخات المكبوتة في صوت امرأة عرفت تمامًا كيف تختزل قرونًا من المعاناة والتحرر في مقطعٍ موسيقي واحد.
لقد جسّدت هند النعيرة من خلال هذه السهرة رؤية جديدة لفن القناوة، تقوم على تمكين المرأة من حقها في التعبير الموسيقي الحرّ، ومنحت الجمهور المغاربي تجربة موسيقية تعيد بناء الأرض تنصت للروح الكوني ، تعطي لنساء العالم طوقا جديدا من الحرية، وتؤسس لمرحلة جديدة يكون فيها التراث مساحة للاشتباك الإبداعي لا مجرد موروث جامد.
في الجزء الثاني من السهرة، اعتلت الفنانة الجزائرية جازية ساطور ركح الحمامات، بعبق يجمع بين الحرية والالتزام والتجذر، حاملة راية فلسطين، وهجا أحمر ونبضا من الرقص الحر، لتكتب شعرا في كل حركة من جسدها وفي كل همس من غنائها.
جازية ساطور تعيد اختراع الذاكرة الموسيقية“:
ليست جازية ساطور صوتًا عابرًا في الساحة الفنية المغاربية، بل هي مشروع فني متكامل. انطلقت في سن مبكرة بانضمامها إلى كورال فرقة قناوة ديفيزيون، ثم خاضت تجربة موسيقية لافتة في أوروبا من خلال فرقة التريب هوب الفرنسية (MIG).هذه التجربة العالمية صقلت أدواتها الفنية ووسّعت آفاقها الإبداعية، وجعلتها تتقن المزج بين أنماط متعددة: من الراي والقناوة الجزائرية إلى الإلكترونيكا والتريب هوب، دون أن تفقد جذورها.
أطلقت أول ألبوماتها الفردية بعنوان “Klami” سنة 2010، ثم أتبعت ذلك بألبوم “Alwan” سنة 2014، لتؤكد حضورها المتميز كفنانة ذات صوت خاص ورؤية موسيقية متفرّدة. أما ألبومها الثالث “Aswât” (2021)، فقد حمل نضجًا فنيًا واضحًا، إذ جمع بين الحنين إلى التراث والإيقاع العصري، وأعاد تقديم أغاني طفولتها بلغة عالمية. وقد أطلقت جولة موسيقية ناجحة رافقتها فيها فرق موسيقية مختزلة، كان أبرزها تعاونها مع عازف البيانو Pierre‑Luc Jamain، في أداء مباشر تميّز بالحميمية والقوة التعبيرية.
جازية ساطور: بين جذور الالتزام وأجنحة التحرر:
في مهرجان الحمامات، شكّلت جازية ساطور واحدة من أهم لحظات الموسم الثقافي، حين وقفت أمام جمهور متنوّع قدِم ليشهد كيف يمكن للصوت النسوي أن يعيد تعريف الطقوس الموسيقية التقليدية. امتزجت أصوات القناوة بالهارموني المعاصر، وانسابت أنغامها بين المدى الروحي والنبض الشبابي، لتؤكّد أنّ التراث لا يُصان بالتكرار، بل بالتجديد والإبداع.
اختارت أن تقدم لجمهورها أغان من ألبومها “أصوات” (نغمة الرياح، انظر إلى الليل، طالب الأمان، مادامني، لون الأيام، ذكريات، مسيرة)، كما غنت لفلسطين والمقاومة، غنت لللجوء، لكل من يبحث عن وطن، للشعوب المستضعفة، للحرية، للعدالة الكونية. واختتمت عرضها بأغنية “بلوز إلينوي” على إيقاعات البلوز الأمريكي، مشيرة إلى محنة الأفارقة في بحثهم عن عالم يحتويهم.
لقد منحت جازية ساطور جمهور الحمامات لحظة نادرة من الصفاء الفني والتأمل الوجداني، وجعلت من القناوة لغة تتكلّمها الأجيال الجديدة بجرأة وعمق. هكذا، تحوّل عرضها من مجرّد سهرة فنية إلى إعلان ثقافي صريح عن حضور نسوي قوي في مشهد موسيقي كان حكرًا على الذكورة، لتصعد جازية، لا فقط كصوت، بل كحالة موسيقية جديرة بالتأمل والمتابعة.
جسدٌ يُنصت ويُغنّي: جازية ساطور ورقص الإيقاع الداخلي:
ليست جازية ساطور مجرد مغنية ، بل هي جسدٌ يتحرّك بنفس القوة التي يصعد بها صوتها. لا ينفصل الغناء عن الحركة، ولا تتفكّك العلاقة بين الإيقاع الداخلي والإيقاع الخارجي، بل يذوبان معًا في ما يشبه الطقس الحيّ.
رقص جازية ليس استعراضًا ولا زينة مضافة، بل هو لغة موازية للصوت، تتكلم بها حين تعجز الكلمات، وتهمس بها حين تصمت الموسيقى. كلّ حركة من حركاتها، كل انحناء في الجذع، كل التفاف خفيف للذراعين، هو امتداد عضويّ لمعنى الأغنية ومزاج اللحن.
تتحرّك جازية على الركح كما لو كانت آلة موسيقية إضافية في الفرقة، تُفسّر الإيقاع وتضاعف أثره الحسيّ على الجمهور. جسدها لا يقف جامدًا خلف الميكروفون، بل يشارك في خلق اللحظة، يستجيب للنغم، يُحاوره، يتجاوب مع آلاتها، كما لو أنّها تُعيد لنا الذاكرة الغنائية الشفوية التي كانت فيها الموسيقى طقسًا جماعيًا حيًّا، لا مجرد عرضٍ استهلاكي.
رقصها يُذكّرنا بأنّ الصوت لا يخرج من الحنجرة فقط، بل من الظهر، والركبتين، والكتف، ومن تموّجات الشعر والقدمين. إنّها تغنّي بكامل كيانها، وتكتب الأغنية على جسدها مثل قصيدةٍ من نبض.
بهذا المعنى، تحوّل جازية ساطور المسرح من فضاء أداء إلى فضاء تجسيد. فما نراه ليس فقط صوتًا يُغنّى، بل موسيقى تُعاش، وتُحرّك الهواء والذاكرة والجمهور، في تجربة لا تكتمل إلا حين يتحرّك الجسد ويُحرّك الآخرين ويدعوهم الى الانخراط في الرقص والفرح والغناء على جهة التحرر الكوني والالتزام الصادق.
ريم خليفة
الحمامات 13 جويلية 2025